تحية لشهداء مصر_ يوحنا ذهبي الفم
غنى وثراء كنيسة مصر بالشهداء
بقلم القديس يوحنا ذهبي الفم
مبارك الله يا أحبائي!
شهداء يأتونا من مصر!
نعم شهداء في هذه المنطقة التي كانت همجية ومقاومة تماماً للإله الحقيقي!
في مصر هذه حيث ما كان الفم ينطق إلا بالشرور، ولا اللسان إلا بالتجاديف ..
ماذا أقول: شهداء في مصر، وشهداء في المناطق المجاورة، ولنقل أكثر من ذلك لأني أرى شهداء في كل الأرض.
ونحن نعلم أنه لو حصدت بلد ما من محصولها وفرة تزيد عن حاجات استهلاكها فإنها توزع الفائض على المدن الأجنبية، كيما تعبر عن إهتمامها بالعطف على الغير، وكيما تحصل عن طريق تبادل المواد، على كل نوع مما لا تنتجه أرضها. هكذا فعل المصريون فيما يتعلق بمجاهدي الإيمان، فقد صاروا أغنياء حقاً بسبب وفرة هؤلاء الأبطال المسيحيين عندهم، ولم يريدوا أن يحجزوا داخل بلادهم هذه البركة التي نالوها من سخاء الله. بل سُروا بأن يُفرِّقوا الكنز (رفات الشهداء) على كل الأرض. وبهذا السخاء أثبتوا محبتهم للمسيحيين إخوتهم، كما أرادوا أن يمجدوا سيد جميع البشر، ويزينوا بلادهم ويظهروها كالمدينة النموذجية وأم مدائن المسكونة.
لقد أمكن للأحداث العامة التافهة، والمصالح التي لا تتعدى منفعتها اهتمامات العالم الحاضر، أن تُكسِب لقب "المدينة الأم" لمدن كثيرة قديمة، فكم بالأولى جداً، وأكثر من أي مدينة أخرى، تستحق هذا الإمتياز الرفيع، المدينة التي عوض أن توزع خيرات أرضية فانية تعد أناساً ليصيروا بعد موتهم حصناً للمدن التي تقبلهم، وحقاً أن رفات الشهداء هي حصن لمدننا، بل وأكثر ضماناً من الأسوار السميكة جداً، حتى ولو كانت من الماس.
ها هم الشهداء، إنهم كالصخور الشامخة التي يصعب إقتحامها، بل إن رفاتهم تفعل أكثر من صد هجمات الأعداء المنظورين، إنها تهزم أيضاً هجمات ومؤامرات الشياطين غير المنظورين، وتفضح حيلهم بالسهولة التي يسحق بها إنسان مناضل قوي لعب الأطفال. ونحن نقرر أنه من أجل ضمان سلام مواطني أية مدينة، قد لا تجدي جميع الوسائل التي يقيمها البشر، مثل الحوائط السميكة والخنادق العميقة، والجنود الكثيرين الشجعان، حينما يستعمل العدو وسائل أكثر ومخترعات أعظم، ولكن مغبوطة هي تلك المدن التي تحميها رفات الشهداء الأماجد فعبثاً يجترئ الأعداء عليها بكافة وسائلهم وإمكاناتهم، إذ يظهر عجزهم الفاضح بإزاء القوة التي يهاجمونها.
بل إن اقتناء هذه الرفات يا إخوتي الأحباء، ليس نافعاً فقط لفضح مؤامرات الناس أو حيل الشيطان الماكرة، بل حتى لو كنا قد جلبنا على أنفسنا غضب الله بأخطائنا الكثيرة، فلنلجأ إلى هذه الرفات ونحتمي بها وهوذا الله يعود سريعاً ويرضى عن بلادنا. فإن كان قد حدث في الأزمنة الغابرة أن استطاعت بعض الشخصيات البارزة أن تقبل من الله معونة ما، بالتشفع بأمانة القديسين العظام، وأن تربح كثيراً بالدعاء بأسماء إبراهيم وإسحق ويعقوب، فكم بالأولى نستطيع نحن أن نجعل الرب يصير رحيماً رؤوفاً ومحباً لنا، إذ نقدم له ليس فقط أسماء بل وبقايا مسيحيين استشهدوا من أجل مجده.
بل إن قولي هذا ليس بدون برهان عملي، فإني أدعوكم يا مواطني هذه العاصمة، وكذا أنتم أيضاً الغرباء عن حدودنا، نعم أدعوكم أن تقولوا لنا، ما هي القوة القاهرة لأبطال الإيمان هؤلاء؟ إشهدوا لكلامي أنتم يا من بخبرتكم المحسوسة تعلمون الدالة العظيمة التي يتمتع بها هؤلاء القديسون المكرمون لدى الله ... وهي دالة مبنية على أساس، فإن نضالهم من أجل الحق لم يكن جهاداً عادياً وبلا تضحيات، لأنهم كانوا يدفعون هجمات واندفاعات الشياطين الرهيبة بقوة وشجاعة حاسمة، كما لو كانت أعضاؤهم من صخر وحديد، ولم تكن أعضاء زائلة وقابلة للموت، فمن يشهد شجاعتهم يحسبهم قد لبسوا تلك الطبيعة الخالدة غير القابلة للعذاب والهلاك، بإزاء الضربات القاسية جداً والممزقة جداً، فقد كان المضطهدون القساة الهائجون كحيوانات مفترسة، يحاصرون أجسادهم غير المقهورة، يثقبون ويحفرون جنباتهم ويمزقون أوصالهم ويعرون عظامهم ويبدون نهمين جداً في قساوتهم الهمجية، ولكن عبثاً كانوا يمزقون الأجساد، وعبثاً كانوا ينشبون أظفارهم الحديدية حتى داخل أحشائهم ، إذ كان مستحيلاً عليهم أن ينزعوا كنز إيمانهم. لقد كان رجاء المضطهدين يخيب، إذ كانوا كالمحاصرين للمدينة الملكية بهدف نهب كنوزها، اللذين بعد أن يحطموا أسواراها يشرعون في كسر الأبواب، وتحطيم المتاريس الحديدية، وخلع البلاط والتنقيب في كل مكان لعلهم يجدون كنوز الملك، لكنهم ينسحبون بعد ذلك دون أن يكونوا قد تمكنوا من أن يجدوا شيئاً أو أن يحملوا شيئاً.
هذه هي طبيعة ثروات نفوسنا ... فباطلاً يسعى أحد ليسلبها بقوة العذاب، حينما تريد النفس أن تسهر عليها بعين منتبهة. فحطموا وانبشوا كما تريدون هذا الصدر، ومزقوا هذا القلب أرباً، فأبداً لن تغصبوا النفس التي تحركه، على أن تسلم وديعة الإيمان التي إئتمنت عليها. هذه الشجاعة غير المقهورة هي من عمل نعمة الله. من الله الذي يدبر كل شيء من أجل مجد قديسيه. ويجعل أعضاءهم أدوات لمعجزات باهرة جداً.
يا للمعجزة الجديرة جداً بالإعجاب، فإنه عبثاً يثير المعذبون غضبهم الجنوني على الشهداء، كيما ينتزعوا كنز إيمانهم، وماذا يفعلون؟ لا شيء إلا أن يزيدوا حرصهم عليه وينموا استحقاقاتهم ويعظموا مجدهم. وليست النفس فقط التي تقبل فيض النعمة من أجل الجهاد بل الجسد أيضاً له نصيبه في هذا المجال. وليس فقط أنه لا يفقد شيئاً من طاقته الطبيعية بل مع كون هذه الأعضاء ممزقة تماماً ومشوهة تماماً، فإنها تبدي قوة مذهلة للغاية وتفوق الإدراك جداً. أفلا تبدو لكم إذن في غاية الدهشة نصرة هؤلاء الشهداء؟! وخاصة في الوقت الذي يمسك الطغاة بقبضتهم على هؤلاء المجاهدين ويعذبونهم كما يريدون، فرغماً عن ذلك ينكسر هؤلاء المعذبون بخزي وينغلبون، لماذا؟ لأنهم لا يتواجهون مع بشر بل مع إله السماء الذي يسكن فيهم. ومن يقاوم الله ضابط الكل، هل يمكن أن يتوقع إلا الهزيمة الأكيدة؟ لا يستطيع أحد أن ينكر أن مثل هذا المقاوم سوف يعاقب على جسارته الجريئة.
هذه هي صفات انتصارات القديسين ... إن نضالهم وجهاداتهم تثير الإعجاب وتأسر القلب، فكم تتأثر القلوب بتذكار الأكاليل المذخورة لثباتهم البطولي. بل إن آلامهم في الواقع لم تقف عند صنوف العذاب التي فصلناها سابقاً، ولم تضع هذه العذابات نهاية لنضالهم. بل إن شر المضطهدين قد هيأ لهم سيرة أطول وأكثر جهاداً. فمن ذا الذي كان يلهمهم بذلك؟ إنه الشيطان الذي كان يتجاسر ويتصور أمل الغلبة على هؤلاء المجاهدين المكرمين، بمزيد من العذابات المؤلمة، والله لم يمنعه عن ذلك كيما يعلن للعالم بصورة أقوى جنون غير المؤمنين من ناحية، وكيما يهيئ للشهداء الفرصة ليضاعفوا أكاليلهم ويزيدوها لمعاناً من ناحية أخرى.
أنظروا أيوب، فإن الشيطان قد طلب من الله السماح بأن يضربه بالقروح ويصيبه بأدواء جسيمة، آملاً أن يزعزع هذه المجاهد الشجاع عن التقوى، بتراكم المصائب الثقيلة جداً عليه، والله قد وافق على الإلحاحات المعوجة لأشر الأرواح المظلمة، كيما يظهر عبده أكثر ضياء، هكذا كان نصيب الشهداء ..
وإذا كان الشيطان مثابراً على غيّه، كان يعد مجالاً جديداً فبعد أن شبع تماماً من دماء الشهداء، صار يخترع طرقاً جديدة للتعذيب، إذ أوقع عليهم أحكام موت مؤلم جداً بقدر ما هو بطيء أيضاً، هذا الموت البطيء هو أن يعملوا كل عمرهم دون تراخ في المحاجر والمناجم فيا للجنون المفرط جداً، وكيف يجسر على أن يتوقع نجاح هذا الاختراع بعد كل هذه البراهين الواضحة على شجاعة الشهداء التي لا تقهر؟ حينئذ رأينا بين الحيوانات المتوحشة أناساً صاروا زملاء الملائكة ومواطنين للسماء ومختارين لسكنى أورشليم العليا، حينئذ فاح في الصحراء عبير القداسة الذي لم تشهده قط المدن والبلدان ...
لقد تحقق فيهم ذلك القول النبوي الذي يقول: "ويكون نور القمر كنور الشمس ونور الشمس يكون سبعة أضعاف" (إش 30)، فهذا النور الفائق كان يبدو من نصيبهم، لأنه ليس شيء قط يوازي تألق النفس التي حُسبت أهلاً لأن تتألم من أجل يسوع المسيح، مهما كانت الشرور التي تأتي وتنصب عليها. فإن الإيمان بالنسبة لهؤلاء الشهداء المنفيين جعلهم يعاينون أمجاد السماء، ومكنهم من الإحساس بمشاركة صفوف الملائكة الذي هم مواطنو السماء. بل ماذا أقول؟ ماذا كانت حاجتهم للتفكير في الملائكة والسماء حيث أن يسوع رب الملائكة كان مجتمعاً معهم في الصحراء، ألم يعلن يسوع المسيح أنه سوف يكون حاضراً وسط أية ثلاثة أشخاص مجتمعين باسمه؟ فكم بالأولى كثيراً من المسيحيين ليسوا فقط مجتمعين باسمه بل ومتألمين من أجله بآلام إستشهاد لا نهاية لها؟ وهل يستطيع أحد أن يجهل أن الحياة في عمق المحاجر والمناجم هي أقسى ما يمكن أن يكون؟ وأنه ليس هناك مجرم واحد لا يُفضل أتعاب ألف موت على الشرور المصاحبة لهذه الأشغال الشاقة؟ لقد حكم إذن على قديسينا الشهداء بالعمل في المحاجر، هناك كان أناس أجل قدراً من الذهب يحفرون ويستخرجون الحديد من أعماق الأرض. كان هؤلاء الشهداء الأثمن من أثمن الكنوز يحفرون المناجم. فما أقسى هذه الحياة وما أصعب هذا الوجود .. لقد كانت تتحقق في هؤلاء الشهداء الأوصاف التي إستعملها الرسول كيما يصور قديسي العصور الأولى: "لقد طافوا في جلود غنم وجلود معزي معتازين مكروبين مذلين وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم" (عب 11).
على ذلك فإذ نحن نعلم أن جميع القديسين وأحباء الله، قديماً وحديثاً، قد نهجوا حياة قاسية متعبة اكتنفتها تجارب بلا عدد فلا نبحثنّ لأنفسنا عن حياة مريحة أو ناعمة أكثر منها، حياة تتخلها المسرات والتنعمات، بل لنقبل على حياة العمل والجهاد والأتعاب والآلام الكثيرة لأنه كما أن المجاهد لن يفوز قط بالجائزة إن كان يستسلم لحياة رخوة وكسولة، وكما أن الجندي لن يقتني قط وساماً فخرياً، والملاح لن يصل إلى الميناء، والفلاح لن يملأ حقله بالسنابل المتزاحمة، إن كان هؤلاء وأولئك لا يقبلون بلا ملل على الأعمال المتعبة، هكذا أيضاً لا يمكن لإنسان مسيحي حياته رخوة ومتكاسلة أن يظفر بملكوت السموات. فانظروا في كل مصالح هذا الدهر الحاضر إن كانت الأعمال لا تسبق المسرات، وإن كانت الأخطار لا تتقدم الأمان، فضلاً عن إننا لا ننال إزاء أتعابنا هذه سوى أجراً زهيداً قليلاً، فيا للحماقة ...
إن ما يقدم لنا هو السماء وحياة سعيدة بلا نهاية، ومجد الملائكة بعينه، واقتناء هذه الخيرات التي لم تخطر على قلب بشر ولا يستطيع اللسان أن يعبر عنها، ونحن نريد أن نحصل عليها دون أن نهجر عاداتنا وحياتنا الرخوة الكسولة الناعمة؟ ولا نعتبرها جديرة بجهود مساوية لتلك التي نبذلها من أجل مصالح تافهة زمنية.
إني أستحلفكم أن تتحرروا من هذه الآراء المضرة لأنفسكم والتي تهدد مصالحكم الأبدية، أنظروا إلى هؤلاء القديسين المجاهدين المتسلحين بالصبر والباذلين لأنفسهم واسترشدوا بأنوار هذه المصابيح التي تضيء لكم، ولنقوّم حياتنا ونكيّفها على مثال سيرتهم، نعم لنحاكي صبرهم وبذلهم حتى تؤازرنا شفاعتهم فنحسب مستحقين عند خروجنا من هذاالعالم أن ننعم بمعاينتهم والوجود بجوارهم في المظال السماوية.
ولينعم الله علينا بهذه النعمة، برحمة ربنا يسوع المسيح آمين.
Reference: The Cult of the Saints, by St. John Chrysostom, Popular Patristic Series, Saint Vladimir’s Seminary Press
الترجمة العربية منقولة من كتاب "آبائيات"، عظة "تطويب لشهداء مصر" للقديس يوحنا ذهبي الفم، ترجمة الأب الموقر كرنيليوس المقاري