أكرم أباك وأمك _ كيرلس الإسكندري
أكرم أباك وأمك
بقلم القديس كيرلس الإسكندري
" .. أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض" (خر 20)
إلى جانب إكرام الله، وضع مباشرة وصية إكرام الأب والأم معاً، فمن خلالهما أتينا إلى الوجود بإرادة الله، لذلك فإن لهم مكانة ثانية بعد الخالق. هكذا كل واحد من الوالدين هو بالنسبة لطفله يكون أصل ولادته ومصدر مجيئه إلى الوجود. إذن، فحسب مثال الخالق يتمثل العمل المشترك بين الأب والأم في قدوم كل البشر إلى الوجود. لهذا أمر الناموس أن تُعطى كرامة عظيمة لهما، وأكد على أن الذين يكرمونهما سوف ينالون كرامة عظيمة، وبالعكس الذين لا يكرمونهما سوف ينالون جزاءً مؤلماً، فالتصرف المهذب والموقر يتوِّج صاحبه بالكرامات، بينما التصرف غير الحسن يُحمِّله بالآم ومشقات ومصاعب أخرى في الحياة، لأنه يقول: "أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض".
إذن فهناك مكافأة عظيمة للذين يكرمون الوالدين في هذه الحياة وتمتد لأزمنة طويلة، وحكم الناموس بالموت على الشتامين مخيفاً إياهم، كمربي يقودهم نحو الصواب. لأنه يقول أيضاً: "ومن ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلاً" (خر 21)
انتبه إذاً، فإن من يرتكب الخطيئة تجاه الوالدين يعاقب بنفس جزاء من يرتكب خطية ضد الله، وهنا يضع حقوق الوالدين بجوار حقوق الله، بمعنى أن اللسان الخاطئ ضد الله يُعاقب بالموت بغضب شديد، هكذا نفس الأمر يصير مع الوالدين. وإن نقض أحد الوصية الإلهية وأحزن المُربي بمخالفته فإنه يموت.
هكذا إذن إن لم يضع الإنسان في حسابه وصايا أبيه أو أمه، يموت بالرجم، كما أمر الناموس الإلهي، إذ يقول سفر التثنية: "إذا كان لرجل ابن معاند ومارد لا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى باب مكانه ويقولان لشيوخ مدينته ابننا هذا معاند ومارد لا يسمع لقولنا وهو مسرفُ سكيرُ. فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت. فتنزع الشر من بينكم ويسمع كل إسرائيل ويخافون" (تث 21).
هل بعد هذا نتردد في أن نعتبر أن كرامة الأب والأم تقترب من كرامة الله؟
بالطبع لا، لأن الناموس اقنعنا بأنه يجب أن نكرمهما، والسبب الذي قاله سبب شخصي: "أُذكر أنك بهما كُونتَ" (حك 30:7). ويعقوب البطريرك أب الآباء يقول بالصواب: "لولا أن إله أبي إبراهيم وهيبة اسحق كان معي لكنت الآن قد صرفتني فارغاً" (تك 31)
وكوننا نقول أننا قد وُلدنا منهما، إلاَّ يبرهن هذا بوضوح أن هذه هي أيقونة الخالق، الذي يدعو غير الموجود إلى الوجود؟ وأنه يجب أن نكرمهما ونهابهما، ألاَّ يبدو أنه وضع لهما نفس مكانة ومنزلة الرتبة الربانية؟
بالتأكيد. لذلك كان سفر الأمثال يلعن البعض قائلاً: "العين المستهزئة بأبيها والمحتقرة إطاعة أمها تقورها غربان الوادي وتأكلها فراخ النسر" (أم 30).
كيف يفهم المرء إذاً قول المخلص: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني؟" (مت 10)، ألا يبدو أنه يبعدنا عن توقير الوالدين؟
كلام المخلص لا يبعدنا إطلاقاً عن احترام الوالدين، لكن يعلمنا أن احترام الله يسبق ويفوق احترام الوالدين. ونحن نعتبر احترام الوالدين مرتبطاً بالاحترام اللائق بالله، وهو الأمر الذي حفظه المسيح نفسه، وهو لم يَدِن الذين يحبون الوالدين ولا حتى أنَّب الذين يحترمون الوالدين. لكن ببساطة شرَّع بطريقة لائقة أن تأتي الأمور البشرية في الترتيب الثاني بعد الأمور الإلهية. لأنه لم يقل فقط "من أحب أباً أو أماً"، لكنه أضاف عبارة "أكثر مني". ينبغي إذاً أن تكون الأولوية للمحبة نحو الله، ثم بعد ذلك المحبة نحو البشر.
فهو قد وضع ما يخصه في مرتبة أعظم مما يخصنا. لأن الله هو أعلا من الكل، وفوق الكل. لكنه لم يأمر مطلقاً بأن نعتبر توقير أو احترام الوالدين شيئاً تافهاً، فهو أوصى بأن نقول إن كل ما يتعلق بالله فهو في المرتبة الأعظم والأحسن.
هذا الأمر قاله المسيح إلى معلمي اليهود: "لماذا تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم فإن الله أوصى قائلاً أكرم أباك وأمك. ومن يشتم أباً أو أماً فليمت موتاً. وأما أنتم فتقولون من قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به مني، فلا يكرم أباه أو أمه. فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم" (مت 15).
ما هو جرم الفريسيين في هذه الحال؟
أتى بعض الإسرائيليين وطلبوا أن يكرسوا نفوسهم لله .. وكان عدم توافر الأموال بالنسبة لهم يمثل عائقاً منيعاً. فالكتبة والفريسيون طلبوا منهم أن يدفعوا، لأن هؤلاء الكتبة والفريسيين كانوا محبين للمال والرشوة الدنسة .. وكانوا يقنعون المكرسين بأن مساعدة الوالدين هو أمر عديم النفع عند الله، حتى أنه عندما يأتي الوالدين ليطلبوا مساعدتهم المنتظمة لقنوهم بأن يخبروهم: "ما تريدونه هو قربان الله"، أي ما سوف تأخذونه منا هو مخصص لله، فلا تمد يدك إلى الأموال الإلهية، إذ أنني كرست ذاتي إلى الله وقدمتها إليه كعطية له. هكذا يدفعوهم أن يتصرفوا ضد الوصية الإلهية لدرجة أن الخوف أصبح ينتابهم من إمكانية تعرضهم للضرر بسبب انتهاك الحرمات المقدسة، كما أنهم أصبحوا يرتعبون بشدة من الناموس، وكل هذا بزعم توقير الله. لذلك قال لهم المسيح: "قد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم"، فكان يجب أن يتم تكريم الوالدين، ولا تداس وصية الناموس الخاصة بإكرام الوالدين بإدعاء توقير الله.
وبالتالي، يجب علينا أن نحب أب الكل محبة شديدة، وفي المرتبة الثانية مباشرة نقدم للوالدين - الذين اشتركوا مع الله في خلقنا - الكرامات اللائقة.
أظهر ربنا يسوع المسيح بأنه ينبغي علينا أن نحترم والدينا، وأعتبر أمه جديرة بالاحترام والرعاية. حقاً لقد كان معلقاً فوق الصليب المقدس ومُسمراً على الخشبة، وسلم العذراء القديسة إلى تلميذه المحبوب الأصيل، جاعلاً تلميذه المحبوب عائلاً لها، إذ قال: "يا امرأة هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ هوذا أمك، ومن تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصته" (يو 19).
وحيث أنه وضع الأولاد تحت نير والديهم، ووضعهم تحت نير الناموس، وضع أيضاً شريعة تتعلق بتصرف الوالدين تجاه أولادهم، بحيث لا يحيدوا عن إرادة الله. لقد أخبر بولس الحكيم الأولاد أنه ينبغي عليهم أن يخضعوا لآبائهم، وأيضاً قال: "أنتم أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم، بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره" (اف 6)، بمعنى أن يصيروا لهم معلمين، ويقودوهم إلى حياة محبة الله ...
إذاً يجب على الأباء أن يقدموا نصائح حسنة، ولكن إذا وصل المربون إلى الانحراف، أو تغير الهدف ولا يبالون، ويصيرون هم أنفسهم مبتعدين عن التعقل في قيادتهم لأولادهم، وإذا أصبحوا محترفين في فعل الأمور المتدنية، فإنهم سيخضعوا لجزاء قاسي، لأن الوالدين يدمرون ثمارهم، ويلقونهم في الهلاك.
المرجع: السجود والعبادة بالروح والحق، القديس كيرلس الإسكندري، المقالة السادسة، ترجمة د. جورج عوض، مركز دراسات الآباء بالقاهرة