المرجو الانتظار قليلا سوف يتم التوجيه الى المدونة الجديدة وشكرا المرجو الانتظار قليلا سوف يتم التوجيه الى المدونة الجديدة وشكرا

الأحد، 26 أبريل 2015

مذبحة الأبرياء _ يوحنا ذهبي الفم

مذبحة الأبرياء _ يوحنا ذهبي الفم

 


مذبحة الأطفال وعناية الله


للقديس يوحنا ذهبي الفم



لم يكن جديراً بهيرودس أن يغضب بل أن يرتعش ويعتدل ويدرك أنه يقدم على أمور لا قِبَل له على إتمامها. غير أنه لم يحبس عنان نفسه لأن النفس متى كانت غبية ولا يُرجى بُرؤها لا ينفعها الدواء الذي يعطيه الله نفسه. فانظر إلى هذا الملك كيف يصرّ على أعماله الأولى واصلاً جناية بجناية ومندفعاً إلى الهاوية في كل مكان. وإذ أصبح كأن شيطان الغضب والحسد قد لعب في رأسه فلا يحسب لشيء حساباً بل يثور ضد الطبيعة نفسها. وهذا الغضب الذي بات يزفر في صدره على المجوس الذين خدعوه، يصبُّ جامه على الأطفال الأبرياء مجدداً في فلسطين تلك المأساة التي جرت وقائعها في مصر، لأنه "أرسل فقتل كل أطفال بيت لحم وجميع تخومها من ابن سنتين فما دون على حسب الزمان الذي تحققه من المجوس".

أعيروني هنا أُذناً صاغية. ان كثيرين يفرطون في الكلام عن هؤلاء الأطفال زاعمين أن في هذه الحوادث ظلماً. فطائفة منهم يحاربون رأفة بهم، وطائفة أخرى تأخذهم نوبة السخط والحمق. فلكي ننقذ الطائفة الثانية من جنونها، والأولى من حيرتها، اصبروا قليلاً على ما نقوله لكم في هذا الصدد. فإذا ما اتهموا العناية الإلهية بأنها لم تبالِ بأمر قتل الأطفال فبوسعهم أن يتهموها أيضاً بقتل الجنود الذين كانوا يحرسون بطرس. لأنه كما أن الصبي لما هرب لاقى آخرون حتفهم مكانه، كذلك حينما أخرج الملاك بطرس من السجن ونزع عنه السلاسل بحث سميُّ ذلك الطاغية وشبيهه في خلقه عن السجين، وإذ لم يجده قتل مكانه الجنود الذين كانوا يحرسونه.

تقولون ما هذا الجواب؟ أنه لا يحل المسأله بل هو إضافة تزيدها تعقيداً. أني أعلم هذا أيضاً ولأجل ذلك أبرز الأمور المتشابهة كلها في آنٍ واحد وأجعل لها كلها حلاً واحداً.

وما هو حلها؟

وأي قول مقبول نستطيع أن نقول؟

نقول أن المسيح لم يكن السبب في قتل أولئك الصبيان، بل قسوة الملك. كما لم يكن بطرس سبب قتل أولئك الجنود بل عَتَه هيرودس. لأن هذا الطاغية لو رأى في الجدار ثغرة أو شاهد الأبواب مفتوحة لأمكنه أن يتهم الجنود اللذين كانوا يحرسون الرسول. أما وقد كان كل شيء على حالته إذ كانت الأبواب لا تزال مغلقة والسلاسل مشدودة إلى أيدي الحرّاس لأن السجين كان مقيّداً، فقد كان بوسعه أن يستنتج من ذلك، لو عَدَل في حكمه على الحوادث، أنه لم يكن هنالك أمر بشري ولا تواطؤ بين السجين والحراس، بل قوة إلهية عجيبة. وحينئذ كان يجب عليه أن يسجد لصانع تلك الآيات بدل أن يشهر حرباً ضد الحراس الأبرياء. وقد صنع الله كل ما صنع لا لينقذ الحراس فقط بل ليهدي بهم الملك إلى الحقيقة. فإذا كان هذا الملك جحوداً، فليس ذلك ذنب طبيب النفوس الحكيم الذي لم يدع وسيلة ليصلح بها ما فسد من خلق هذا المريض.


فيجب أن نقول الشيء نفسه عن أمر الأطفال – فلماذا تحنق يا هيرودس إذا كان المجوس سخروا بك؟ ألم تعلم أن المولود كان إلهياً؟ ألم تدع أنت نفسك رؤساء الكهنة؟ ألم تجمع علماء الناموس؟ ألم يوضحوا أمام ديوانك النبوءة التي أخبرت من قبل عن هذه الحوادث؟ ألم ترَ الأمور القديمة تنطبق على الأمور الحديثة؟ ألم تسمع أن نجماً يثبت النبوءة؟ ألم تحترم غيرة البرابرة؟ ألم تدهش لجرأتهم وثبات عزمهم؟ ألم يرهبك أن النبوءة قد صدقت؟ ألم تدرك النهاية من البداية؟ فلماذا لم تستخلص بذاتك من كافة هذه الأمور أن ما جرى لك مع المجوس لم يكن خدعة منهم وإنما كان فعل قدرة إلهية قد دبّرت كل ما يجب أن يكون؟ وهب أن المجوس خدعوك فلماذا قتلت الصبيان ولا جناح عليهم؟

أنكم تقولون نعم لقد أصبت وأفحمت هيرودس وأوضحت أنه قاتل لا يبرأ من اللوم، ولكنك لم تحل الإعتراض بعد على الفعل ذاته من حيث هو ظلم.

فإذا كان هذا الرجل ظالماً فلماذا سمح الله بالظلم؟

أجيب بما لم أفتأ أقول في الكنيسة وفي كل مكان وهو ما أريد أن تحرصوا عليه كل الحرص. لأنه يوجد قاعدة عامة تطبق على كل صعوبة تعرض لنا مثل هذه.

وما هي القاعدة وما هو الحل؟ إن كثيرين يظلمون ولا أحد يطيق الظلم.

فلكي لا يقلقكم هذا اللغز أبادر إلى حله. إنَّ ما نعانيه ظلماً من أي كان من الناس، يحسبه الله إما للتكفير عن خطايانا أو لزيادة أجرنا، فتوضيحاً لهذه القضية أقدم لكم مثلاً:

لنفترض أن عبداً مدين بمال كثير لسيده، وان هذا العبد اعتدى عليه أناس أشرار فسلب قسماً كبيرا من مقتنياته، فلو ان سيده القادر على صدّ السالب الطماع لم يستوفِ ماله ذاك، وحسب الأشياء المسلوبة ممَّا يلتزم به العبد نحوه، فهل يكون هذا العبد مظلوماً؟ كلا. وما قولك لو عوَّض عليه بأكثر مما فقد؟ أفلم يربح ربحاً عظيماً؟ إن ذلك لأمر بيِّن.

فلنعتقد أن الأمر نفسه يكون لنا مما نعانيه نحن أيضاً. أننا لأجل ما ينالنا من الأذى إمَّا نكفر عن خطايانا وإمّا نحرز أمجاد براقة إذا لم نكن مثقلين بالخطايا.

تذكر داود الذي حينما أبصر يومئذ شمعي يسير في أثره ويعيره بمصائبه ويقذفه بشتى الشتائم. ردَّ جماح قوّاده الذين كانوا يريدون القضاء عليه. وقال لهم: "دعوه يلعن لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويجازيني خيراً عن لعن هذا لي اليوم" (2 مل 16). 

وكان يقول منشداً في أحد مزاميره: "أنظر إلى أعدائي لأنهم قد كثروا وأبغضوني ظلماً واغفر لي جميع خطاياي" (مز 24). وان لعازر يتمتع براحة أبدية لأنه تحمَّل عذاباً كثيراً في هذه الحياة. فالذين يبدو أنهم مهانون لا يكونون كذلك، إذا ما احتملوا النائبات بثبات جنان، لأنهم يجنون منها نفعاً كبيراً، سواء أجاءت الضربة من الله أم من الشيطان.

ولعلكم تقولون أية خطيئة ارتكبها الأطفال ليكفروا عنها؟ ان هذا الجواب ينطبق على الذين هم في عمر ارتكبوا فيه خطايا كثيرة فهذا أمر معروف. أما الذين لا يزالون في صبائهم فعن أي خطايا كثيرة يكفرون بهذه النوائب؟

أما سمعتموني أقول أن الأجر يزداد لمن يتحملونها، إن لم يكونوا مثقلين بالخطايا؟
فأيّ ضررٍ إذاً لحق بهؤلاء الأطفال اللذين قُتلوا لأجل هذه القضية ودخلوا سريعاً إلى الميناء الهادئ؟

قد تقولون أيضاً أنهم كانوا يستطيعون أن يحوزوا أجوراً كثيرة لو أمدَّ الله بعمرهم. لكن ليس بالشيء القليل ما استحق لهم موتهم من الأجور لأجل قضية مثل هذه. وإلاَّ لما سمح الله أن تنتزعهم المنون، لو قُيِّض لهم فيما بعد أن يكونوا رجالاً عظاماً. إذا كان يحتمل بطول أناته أولئك الذين تنقضي حياتهم في الإثم فانه بالأحرى لا يسمح بأن يهلك أولئك الصبيان قبل الأوان، لو كانوا أعِدّوا لأعمال خطيرة.

هذه هي بعض الأسباب التي لدينا لا كلها، إنما يوجد غيرها بعيدة المنال، يعلم بها ذاك الذي يدبّر هذه الأمور. فاجتناباً للخوض في أمور هي على غاية من الغموض والدقة، لنتمسك نحن بما سأبسط لكم فيما يلي، ولنتعلم بمصائب غيرنا أن نتحمّل بالصبر – لأن المأساة التي اجتاحت يومئذ بيت لحم ليست أمراً ضئيلاً، إذ أن الأطفال انتزعوا من ثدي أمهاتهم وأُخذوا إلى تلك المجزرة الجائرة.

فإذا كانت نفسك في منتهى الضعف، وتقصر عن بلوغ هذه الفلسفة السامية، لتكن نهاية هذه الجنايات على الأقل عبرة لك، وخفّف عن نفسك بعض الشيء، لأن الإنتقام لم يلبث أن حلَّ بهيرودس، وأنزلَ به أشدّ العقوبة جزاء ما قدمت يداه، إذ مني بموت شنيع يدعو إلى الرثاء ترافقه ألوف من الويلات، الشيء الذي بوسعك أن تتحققه إذا طالعت كتاب يوسيفوس المؤرخ، هذا الكتاب الذي لا آتي على تفاصيله هنا لئلا نطيل عليكم هذا الخطاب.

"حينئذ تمَّ ما قيل بارميا النبي القائل: "صوت سمع بالرامة، بكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على أولادها وقد أبت أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين" (إر 31). فالإنجيلي إذاً ملأ قلوب مستمعيه فَرقَاً إذ وصف لهم تلك المجزرة الهائلة الظالمة الوحشية الأثيمة، فهو يعود يعزّيهم قائلاً: انّ تلك الحوادث لم تتم ضد قدرة الله وبغير علمه، بل سبق فعرفها وأخبر عنها بواسطة نبيّه. فلا تضطرب ولا تهن عزيمتك، بل بالحري حوِّل بصرك إلى عنايته التي يتعذّر وصفها، والتي تبدو خصوصاً سواء في ما يفعل أو في ما يسمح به.

وهذا ما عبَّر عنه هو نفسه في محل آخر، إذ كان يتحدث إلى تلاميذه، لما سبق فاعلن لهم أنهم سيسلمون إلى المحافل ويُقادون إلى الموت، وان العالم سيبغضهم ويصليهم حرباً لا هدنة فيها.

فكان يقوي عزائمهم ويعزّي نفوسهم قائلاً: "أليس عصفوران يباعان بفلس، ومع ذلك فواحد منها لا يسقط على الأرض بدون أبيكم الذي في السموات" (مت 10). فكان يقول لهم ذلك مبيِّناً أنه لا يتم شيء هو جاهله، لكنه يعلم كل شيء ويفعل كل شيء. فهو يقول لا تضطربوا ولا تقلقوا لأن الذي يعلم ما تعانونه ويستطيع منعه، لا يمنعه لأنه يدرك استعدادكم ويعتني بكم، الأمر الذي يجب أن نفكر به إبَّان المِحَن.

وقائلٍ أي شركة لراحيل مع بيت لحم؟ وربما يسأل أحد أيضاً ما محلّ هذا القول: "راحيل تبكي على أولادها"، وأي شركة للرامة مع راحيل؟ كانت راحيل أم بنيامين ولما ماتت دُفنت في مرماح سبق الخيل بجوار هذه البلدة. فلما كان قبرها قريباً وداخلاً في نصيب ابنها بنيامين (لأن الرامة كانت في قبيلة بنيامين) كان الإنجيلي على صواب إذ يدعو الأطفال المقتولين بني راحيل نظراً إلى رئيس القبيلة وإلى مكان قبر أمه. ثم بعد إذ يبيّن ان ذلك الجرح كان بليغاً لا يبرأ يقول: "وقد أبت أن تتعزّى لأنهما ليسوا بموجودين".

إن ذلك يعلمنا أيضاً ما كنت أقول لكم قبيل هذا، وهو أن لا نضطرب حينما يحلّ بنا ما يخالف وعد الله. فالذي جاء لخلاص شعبه بل خلاص العالم ماذا كانت أوائله: أمه تلجأ إلى الهرب، وطنه يقع في شدائد لا يمكن التغلب عليها، واجتُرئ فيه على قتل أشد مرارة من كل قتل، بكاء وعويل كثير ونحيب في كل مكان. لكن لا تقلق لأن الله يروق له دائماً أن تتم تدابيره بما يناقضها، إذ يعطينا بذلك دليلاً قاطعاً على قدرته.

على هذا النحو هذَّب تلاميذه وأعدَّهم ليحسنوا العمل في كل شيء، مدبراً الضد بالضد، لتكون الأعجوبة أعظم وأبين. حتى إذا ما جُلدوا هم أيضاً وطُردوا وتحمّلوا ضروب الشدائد ينتصرون على جلاديهم وطارديهم.





المرجع: كتاب "خطيب الكنيسة الأعظم القديس يوحنا ذهبي الفم"، للأب الياس كويتر المخلصي، عظة "قتل الأطفال"، منشورات المكتبة البولسية.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ارسل الموضوع لأصدقائك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
;