إله إبراهيم وإسحق ويعقوب _ يوحنا ذهبي الفم
إله إبراهيم وإسحق ويعقوب
يوحنا ذهبي الفم
"بالإيمان إبراهيم لما دُعي أطاع ... بالإيمان تغرب في إرض الموعد .. لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله ... في الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيّوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض ... لذلك لا يستحي بهم الله أن يُدعى إلههم لأنه أعد لهم مدينة" (عب 11)
كان القديسون غرباء ونزلاء .. كما قال داود "أنا غريب عندك ونزيل مثل آبائي" (مز 39). لأن أولئك الذين عاشوا في خيام، واللذين أشتروا القبور بالمال، من الواضح أنهم كانوا غرباء إلى حد أنهم لم يكن لديهم ولا حتى مكاناً يدفنون فيه موتاهم. تُرى هل كانوا يقصدون أنهم غرباء عن تلك الأرض التي كانت في فلسطين فقط؟ بالطبع لا، إنهم كانوا غُرباء نزلاء في العالم بأسره. ولم يروا فيه ما كانوا يتوقون إليه، فكل شيء كان غريباً عندهم. لقد أرادوا حقاً أن يمارسوا الفضيلة، ولكن في العالم كان الشر متفاقماً، وكانوا غرباء عنه. لم يكن لهم صديق حميم، ولا أهل بيت إلا القليل القليل.
وكيف كانوا غرباء؟ لقد سلكوا كغرباء لم ينشغلوا بالأمور الأرضية، وقد أظهروا هذا لا بالكلام بل بالأعمال. كيف وبأية طريقة؟ قال الله لإبراهيم "أذهب من أرضك .. إلى الأرض التي أريك"، ولم يتراجع بسبب أقربائه، بل كما لو كان ينوي أن يترك بلداً غريباً عنه، وبكل هذه السهولة ترك أرضه. أيضاً قال له الله: "خذ أبنك وحيدك .. وأصعده محرقة"، فقدمه بكل هذه السهولة، كما لو كان ليس لديه ابناً، قدمه كما لو كان مُجرداً من الطبيعة الأبوية. كل ما له كان مشتركاً مع العابرين من هناك، وهذا الأمر ان يفعله كما لو كان لم يفعل شيئاً. المكانة الأولى كان يتنازل عنها للآخرين، أما نفسه فقد رماها في الأخطار، وعانى من مصائب كثيرة، لم يبني بيوتاً فخمة، ولم يعش في رفاهية، ولم يهتم بالملبس، ولا بأي شيء آخر من تلك الأمور المتعلقة بهذه الحياة، لكنه أهتم بكل ما يتعلق بتلك المدينة السمائية. كان مُحباً للغرباء ومضيافاً، محباً للأخوة، مُحسناً، مُتسامحاً، إزدرى بالمال وبمجد هذه الحياة الحاضرة، وكل الأشياء الأخرى ...
لقد تنهد الرسول بولس قائلاً "فأننا نحن الذين في الخيمة (خيمة الجسد) نئن مُثقلين". هكذا كان أولئك الذين عاشوا في زمن إبراهيمن لأنه يقول "أقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض .. يطلبون وطناً". إذاً ما هو هذا الوطن؟ هل هو ذلك الوطن الذي هجروه؟ بالطبع لا، لأنه ماذا كان يعوقهم لو أنهم أرادوا أن يعودوا إليه مرة أخرى، وأن يصيروا موطنين في هذا الوطن، لقد طلبوا الوطن الذي في السموات. تاقوا إلى الرحيل، وهكذا أرضوا الله.
"لذلك لايستحي بهم الله أن يُدعى إلههم"
يا للعجب ! يا لها من كرامة عظيمة !
لقد قَبِل الله أن يُدعى إلههم.
ماذا تقول؟ مع أنه يُدعى إله الأرض والسماء، إلا أنه لا يستحي بأن يُدعى إلههم.
ما أعظم ذلك !! أنه دليل على تطويب وغبطة فائقة.
كيف؟ أنه يُدعى إله السماء والأرض، كما يُدعى إله اليونانيين، ويُدعى إله السماء والأرض لأنه هو الذي صنعهما وخلقهما. لكن بالنسبة لأولئك القديسين فهو فهو لم يُدعى فقط إلههم بل دُعي كمحب وصديق وفي.
وسأضرب لك مثلاً لأوضح ما أريد. الخُدّام في قصور أسيادهم، يُكرمهم ويعتني بهم أهل البيت، وتكون لهم دالة عظيمة على سيدهم، ويدعى سيدهم باسمهم.
ماذا أقول؟ فكما أنه من الممكن أن يُدعى الله، ليس إله الأمم بل إله الكون كله، هكذا دُعي "إله إبراهيم". لكن إلا تعلمون كم هو عظيم هذا المقام، لأننا لا نناله صدفة. تماماً كما هو الآن أيضاً، فالرب يُدعى إله كل المسيحيين، إلا أنه الأسم يتجاوز أهليتنا ويفوق قيمتنا نحن.
أنظر ما اعظم أن يدعى الله باسم شخص واحد. فإله العالم كله لا يستحي من أن يُدعى إلهاً لثلاثة أشخاص. فالقديسيون هم بموازاة العالم، كل العالم، بألوفه المؤلفة في كل أصقاع الأرض. إذ أن "ولد واحد يتقي الرب خير من ألف منافقين" (سي 3:16) ...
إذاً فلنصر نحن أيضاً الآن غرباء، لكي لا يستحي الله أن يُدعى إلهنا. هي إهانة لله أن يُدعى إله أناس أشرار ويستحي بهم، تماماً مثلما يتمجد عندما يكون إله أناس صالحين وأبرار وسالكين بالفضيلة، لأنه إن كنا نحن لا نريد أن نُدعى سادة لعبيدنا الأشرار، ونستغنى عنهم، وإن أقترب منّا أحد وقال لنا، هذا الذي يصنع شروراً كثيرة، هل هو عبد لك، نقول على الفور، لا لكي نتجنب الخجل، بالأكثر جداً هذا يسري على الله. لكن القديسون كانوا في بهاء شديد، وكانوا مملوءين بالجرأة والسخاء، حتى أنه لا يستحي أن يُدعى فقط إلههم، بل هو ذاته لا يستحي أن يقول (كما قال لموسى): "أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب" (خر 3). فلنصر أيها الأحباء غرباء، حتى لا يستحي الله بنا، ويسلمنا لجهنم.
المرجع: تفسير رسالة العبرانيين للقديس يوحنا ذهبي الفم، ترجمة د. سعيد حكيم يعقوب، مركز دراسات الآباء بالقاهرة + التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس، رقم 10، رسالة العبرانيين، جامعة البلمند.
وأيقونة الآباء البطاركة، الأولى من الكنيسة الرومانية الأرثوذكسية، والثانية من دير العذراء السريان ببرية شيهيت.