فضيلة بساطة الملبس _ يوحنا ذهبي الفم
ودعيني أتحدث ببعض كلمات قليلة عن بساطة ملبسك وعن عدم إهتمامك مطلقاً بما تلبسين. وهذه فضيلة قد تظهر لأول الأمر أقل شأناً من غيرها من الفضائل. ولكن من ينظر إليها بعين فاحصة وناقدة يرى فيها فضيلة من أسمى الفضائل، ويرى أنها تتطلب نفساً كاملة تكون قد ازدرت كل أباطيل العالم ونبذتها واتخذت وجهة طيرانها نحو السماء.
ليس في العهد الجديد فحسبُ بل منذ العهد القديم، والله ينذر بالدينونة الهائلة لمن يهتم كثيراً بملابسة. في ذلك العهد الذي كان الله فيه يقود الجنس البشري في الظل والرمز وحين كانت المبادئ أرضية وجسدية، وحين لم تكن القضية قضية أشياء سماوية ولا حياة مستقبلة، ولم يكن للناس من صلة أو عهد بحياة الإنجيل الكاملة، وحين كان الناس يعيشون في شريعة اللحم والدم في الناموس الموسوي، أجل منذ ذلك الحين أنذر الله بالدينونة بفم نبيه إشعيا أولئك الذين يفرطون في الاهتمام بملابسهم:
"وقال الرب: كم أجل أن بنات صهيون يتشامخن، ويمشين ممدودات الأعناق، وغامزات بعيونهن، وخاطرات في مشيهن، ويُخشخِشن بأرجلهن، يُصلعُ السيد هامة بنات صهيون .. ينزع زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور .. والثياب المزخرفة ... فيكون عوض الطيب عفونة، وعوض المنطقة حَبلُ، وعوض الجدائل قَرعةُ، وعوض الديباج زُنَّار مِسحٍ" (إش 3)
أرأيت هذه العقوبة وهذا المنقَلَب الذي لم يسبق له مثيل؟ أرأيت هذه العبودية المهينة التي يسلمهم إليها؟ ومن هنا تستطيعين الحكم على عظم الخطيئة. فهذا الإله الكلي الصلاح ما كان ليعين لمثل هذه الخطيئة مثل هذا القصاص الهائل لو لم تكن هذه الخطيئة أعظم منه.
وبما أن هذه الخطيئة هي كبيرة جداً، فيلزم أيضاً أن تكون الفضيلة المضادة لها كبيرة جداً. إن القديس بولس الرسول عندما يخاطب نساء العالم لا يكتفي بأن يصرفهن عن التزين بالذهب، بل لم يكن يسمح لهن حتى بالملابس الفاخرة ذات الثمن المفرط. وما ذاك إلا لأنه يعرف أن فيها مرضاً هائلاً للنفس القليلة التهذيب. وإننا نجد الفضيلة المضادة لها في النفوس العاشقة للكمال والأدب الحقيقي.
وبرهان ذلك لا يظهر فقط في نساء العالم وفي النساء المتزوجات اللواتي ما من واحدة منهن تقبل بارتياح النصائح بهذا الشأن، بل في النساء اللائي يهدفن في حياتهن إلى الكمال، ويكنَّ في مصاف البتولات (الراهبات). وإنكِ لتجدين كثيرات منهم قد صارعن ضد الطبيعة، بشجاعة غير مغلوبة، وقطعن من غير سقوط ميدان البتولية، يعشن على الأرض عيشة الملائكة ويحققن بالجسد المائت، وقبل القيامة، ما سيكون بعد القيامة ... ومع ذلك، وبعد أن يكن قد ربحن كثيراً من المعارك، فمن المؤسف والمخزي معاً أنهن ينغلبن أمام أقل أعدائهن شأنا، وبعد أن ينتصرن على الشهوات والميول الجبارة يغلبهن حب التبرج وزينة اللباس ... إذ خضعن للزينة أكثر من نساء العالم.
ولعلك تقولين لي: بل إنهن لا يحملن الذهب في أيديهن، ولا يلبسن الألبسة المزركشة بالذهب والعقود المنظومة بالحجارة الكريمة، فأجيبك بأن هناك ما هو شر من كل هذا كله. وما يظهر عمق شرهن، وحيلة مقصدهن في جموح العاطفة هو أنهن يجربن، بل يجتهدن أن ينافسن بألبستهن البسيطة المتواضعة أجمل المتزينات بالحرير والذهب، ويلتمسن أن يجدن، حتى في بساطة ملابسهن، وسيلة لأن يصرن أكثر فتنة وإغراء. وهذا سلوك ناعم يفتح أمام الإنسان مزالق عميقة. ولأجل هذا يجب أن يمتدحك آلاف الألسنة بالمقابلة إلى مثل هؤلاء أنت الأرملة البسيطة التي أحرزت، كما نرى، مثل هذا الانتصار السهل، حيث لاقت العذارى معثرة لهن وسقوطاً وانهزاماً.
إن ما أكبره فيكِ ليس فقط زهدك، الذي لا يصدق، في الملابس التي لا تعدو ثياب الفقراء في مظهرها الفقري وفي رثاثتها، بل أيضاً، وعلى الأخص عدم تفتيشك مطلقاً عن الملابس وعدم اهتمامك بها كأنه أمر لا يخطر في بالك ماذا تنتعلين وكيف تمشين. وهذه هي العلامة على كمال فضيلتك، قال الحكيم: "الإنسان يُعرف من ثيابه وضحكه ومشيه". لأنك لو لم تطرحي، إلى حد بعيد، كل ما تواضع عليه الناس جهلاً، من عادات وتقاليد، ولو لم تترفعي إلى مثل هذا الإحتقار لأشياء العالم، لما كنت غلبت هذه الرذيلة التي لا تستأصل. ولست أقبل أن يتهمني أحد بالمبالغة حين أتكلم عن فظاعة هذه الخطيئة في هذا العصر المسيحي.
إذا كانت هذه الخطيئة، خطيئة التبرج، قد استلزمت العقاب على النساء العالميات في زمن العبرانيين وتحت الناموس القديم، فماذا نقول عن النساء اللواتي يتبعن ناموس النعمة، وهن من أهل مدينة السماء والمفروض فيهن تقليد عيشة الملائكة؟ وأي مبرر لتلك الخطيئة في مقدار حجمها وانتشارها، وكيف نحسب صاحبتها بتولاً وعذراء؟ هي بنت عذراء وأنتِ إمرأة متزوجة ومترملة! فتلك العذراء التي ترتدي الملابس الطويلة ذات الطيات والتجاعيد الكثيرة، تجر أذيال ثوبها على نحو الحال التي ينكرها النبي على نساء صهيون، وفي مشيتها وخطوتها ما يستثير الشهوة، وفي صوتها وعينيها وكل حركة من حركاتها ما يسكب السم في أنظار الفاسقين! هذه العذراء التي تحفر الحفر في كل يوم، وتنصب الحبائل في سبيل المارة، هل لنا أن نسميها عذراء، أم أن نحتسبها في مصف البغايا؟ وماذا أقول؟ إن البغايا هن أقل خطراً، إذ ليس على صنارة صيدهن طُعم كثير مثل أولئك، ولا ينشرن مثلهن في كل مكان الفتنة والإغراء.
ولأجل هذا أنا أهنئك وأكبر فيكِ هذا النصر المبين الذي أحرزته وأضفته إلى سلسلة انتصاراتك كلها. وإنك لفي بأس الرجال. حين يستسلم غيرك لطبيعة الضعف الأنثوي، وحين يسعين وراء الزينة والتبرج تتسلحين أنتِ بالفضائل.
إن الأسد يعرف من مخالبه. وقد حاولت أن أبرهن أنك تُعرفين من ملابسك.
ولكِ في هذا فضيلة لم أستطع أن أتم وصفها.
المرجع: الرسالة الثامنة للشماسة أولمبيا، من القديس يوحنا ذهبي الفم. الرسائل إلى أولمبيا،تعريب الأسقف أسطفانوس حداد، منشورات النور.