عصا هارون _ كيرلس الإسكندري
... ننتقل إلى الحديث عن عصا هارون التي تشير إلى المسيح
كان قورح وأبيرام ومعهم داثان ينحدرون من سبط لاوي. وبالرغم من أنه أوكل إليهم العمل الليتورجي القانوني في الخيمة المقدسة بقرار من السماء، إلا أنهم غاروا من مجد موسى وهارون، وأرادوا أن يسرقوا الكرامة لذواتهم، دون أن يدعوهم الله لهذا العمل. هكذا، وبينما هم تحت تأثير وقاحة شنيعة، وغيرة شديدة اشتكوا ضد موسى وهارون بطريقة غير مقبولة .. ولكن هؤلاء نالوا عقابهم على كل ما أقدموا عليه، إذ ابتعلتهم الأرض ..
بقرار من السماء، وليس بإرادة موسى، أخذ هارون المكان الأول في الكهنوت. وحين أراد المشرع أن يعلن هذا الأمر قال لموسى العظيم: "كلم بني إسرائيل وخذ منهم عصا عصا لكل بيت أب من جميع رؤسائهم حسب بيوت آبائهم، اثنتي عشرة عصا. واسم كل واحد تكتبه على عصاه. واسم هارون تكتبه على عصا لاوي، لأن لرأس بيت آبائهم عصا واحدة. وضعها في خيمة الاجتماع أمام الشهادة حيث أجتمع بهم. فالرجل الذي اختاره تفرخ عصاه، فأسكِّن عني تذمرات بني إسرائيل التي يتذمرونها عليكما. فكلم موسى بني إسرائيل، فأعطاه جميع رؤسائهم عصا عصا لكل رئيس حسب بيوت آبائهم اثنتي عشرة عصا. وعصا هارون بين عصيِّهم. فوضع موسى العصي أمام الرب في خيمة الشهادة. وفي الغد دخل موسى إلى خيمة الشهادة، وإذا عصا هارون لبيت لاوي قد أفرخت. أخرجت فروخاً وأزهرت زهراً وأنضجت لوزاً. فأخرج موسى جميع العصي من أمام الرب إلى جميع بني إسرائيل ، فنظروا وأخذ كل واحد عصاه. وقال الرب لموسى: رُدَّ عصا هارون إلى أمام الشهادة لأجل الحفظ، علامة لبني التمرد، فتكف تذمُّراتهم عنّي لكي لا يموتوا" (عدد 17).
إذن، كان النبتُ لعصا هارون علامة واضحة، واختياراً - بطريقة باهرة وممتازة - للقيام بالعمل المقدس. لأن هارون العظيم كان من نسل لاوي. لكن لو نظرنا لهذا الحدث من منظار روحي، لأشرق لنا سر المسيح في هذه الأمثلة الغنية.
لقد عُيِّن عمانوئيل حقاً كمشرع، ورئيس كهنة لأجلنا بواسطة الله الآب مُقدماً ذاته ذبيحة لأجلنا، لأن الناموس - كما يقول بولس الطوباوي - "يُقيم أُناساً بهم ضعف رؤساء كهنة. وأمّا كلمة القَسَم التي بعد الناموس فتُقيم ابناً مكملاً إلى الأبد" (عب 7). إذن، فقد نزل الكلمة من السماء وصار مشابهاً لنا، خادماً للأقداس والخيمة الحقيقية التي أقامها الرب، وليس أي إنسان. لكن الذين انحدروا من دم إسرائيل لم يقبلوا تدبير تجسده، وعدّوه عدواً لهم، فضربوه بشتى الطرق، بسهام الحسد والغيرة، ولم يتورعوا عن استخدام اللسان والوقاحة والإتهامات السخيفة ضده، بينما التعساء منهم انجروا إلى هلاك ذواتهم، وحكموا عليه بالصلب.
لكن العصا التي خرجت من جذر يسى، نبتت مرة أخرى. (إش 11: 1)، أي قام المسيح ودبَّت فيه الحياة مرة ثانية، "ناقضاً أوجاع الموت" - كما هو مكتوب (أع 2). لقد كان حقاً هو الحياة بطبيعته أي بلاهوته، فكيف يمكن أن يُمسك من الموت ولا ينتصر على الفساد؟!
ومثلما أُحييت العصا، ونَبَتَ مرة أخرى - بالفعل - السِّبط الميت، وكان هذا الأمر بالنسبة للأقدمين علامة على أن هارون قد عُيِّن رئيس كهنة بقرار السماء، هكذا نستند على إنَّ البرهان الساطع والحي والكافي على أنّ عمانوئيل هو الإله بطبيعته، هو أنه داس الموت، وأنه قام من الأموات كما يليق بإله. وأنه هو نفسه المسيح الذي بالرغم من أنه كان يمكنه - دون أي تعب - أن يستجيب لأولئك الذين طلبوا منه آية، إلاّ أنه قال: "هذا الجيل شرير يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل" (لو 11).
إذن، فقد صار من المعروف أنَّ آية حقيقة ساطعة قد أعطيت، لكي يؤمن البشر أنه هو الله بطبيعته، وإنه قد أتى من الآب، وأنَّ الابن قد أبطل الموت والفساد ونَبَتَ مرة أخرى في الحياة. لأن المسيح قام الآن "من الأموات وصار باكورة الراقدين" (1 كو 15). وأعطى علامة لأبناء المعصية، لكي يعرفوا أنه - بقرار من الله الآب - صار المسيح لأجلنا رئيس كهنة، "قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات" (عب 7).
عصا هارون أثمرت لوزاً. ليس غريباً أن نشير إلى أن العصا قد جاءت من شجرة اللوز. إذ اعتاد الأقدمون على استخدام مثل هذه العصي. ولكي يجيء الحديث منسجماً مع التفسيرات، سأشير أيضاً إلى الأمر الذي صار تقليداً، إذ يرى البعض أن عصا اللوز لها قوة تجلب يقظة وسهراً إذا وضعها الشخص بالقرب من رأسه، الأمر الذي يمكن أن يصير بقدرات طبيعية بسماح من الله. وهذا الأمر يؤكده لنا كلي المعرفة وخالق الجميع عندما تحدث مع إرميا قائلاً: "ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟ فقلت: أنا راءٍ قضيب لوز. فقال الرب لي: "أحسنت الرؤية لأني أنا ساهر على كلمتي لأُجريها" (إر 1).
إذا عصا اللوز يمكن أن تعتبر حقاً رمزاً لليقظة والسهر. اليقظة من النوم إذن هي قيامة المسيح من بين الأموات. لذلك يقول المرنم على الربابة: "أنا اضطجعت ونمت. استيقظت لأن الرب يعضدني" (مز 3).
المرجع: السجود والعبادة بالروح والحق، للقديس كيرلس الإسكندري، المقالة العاشرة، ترجمة د. جورج عوض إبراهيم، مركز دراسات الأباء بالقاهرة.