لنجعل نفوسنا سماء _ يوحنا ذهبي الفم
لنجعل نفوسنا سماء
القديس يوحنا ذهبي الفم
إن الأمور المختصة بنا هي كائنة في السماوات، وهي أمور سمائية، حتى وإن كانت تتحقق على الأرض. والملائكة الذين هم على الأرض يدعون سماويِّين. لقد ظهرت الشاروبيم على الأرض ومع ذلك فهي سماوية. ولماذا أقول ظهرت؟ إنها تحيا على الأرض كما هي في الفردوس، ولا شيء يمنعها من ذلك، لأنها سماوية. وطننا في السماء (في 3) مع أننا نعيش على الأرض. هذه هي الأمور السماوية، أعني بها محبة الحكمة الموجودة بيننا نحن المدعويين إلى هناك ...
إذاً إن كنا نحن سمائيين وأستحققنا مثل هذا الميراث، فلنرتعد، ولا نبقى بعد على الأرض فيما بعد، وقد أصبح ذلك الآن في استطاعة من يريد أن يسمو بأفكاره للسماء، كذلك فإن مسألة تمسُّك أحد بالأرضيات أو عدم تمسكه، هذا يعتمد على طريقة الحياة، وعلى الرغبة والإرادة.
يُقال، على سبيل المثال، إنَّ الله في السماء، لماذا؟ ليس لأنه محصور في مكان - معاذ بالله - ولا لأنه قد ترك الأرض خالية من حضوره، بل بسبب العلاقة والدالة أو الألفة التي له نحو الملائكة. فإذاً كنَّا قريبين من الله، فنحن في السماء. ومتى أصبح أنا سماء؟ عندما أرى سيِّد السماء، عندها أصبح سماء. لأنه يقول: "إليه نأتي أنا وأبي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14).
إذاً فلنجعل نفوسنا سماء. السماء ساطعة بطبيعتها، والعاصفة أعجز من أن تُحيلها سوداء، فمنظرها لا يتغيَّر، إلا أن السُّحب هي التي تتحرك فتحجبها. إن للسماء شمساً، ونحن عندنا شمس البر. قلت أنه من الممكن أن نصير كالسماء، وأرى أنه من الممكن لنا أن نصير أيضاً أفضل من السماء. كيف؟ عندما يملك علينا رب الشمس.
إن السماء نظيفة ونقية من كل ناحية، لا يؤثر فيها شتاءً، ولا ليلاً، ونحن أيضاً يجب ألا تغيّرنا لا الضيقات ولا حيل الشيطان، بل لنبقى أنقياء وطاهرين. السماء عالية وتبتعد كثيراً عن الأرض، هذا ما يجب أن نفعله نحن أيضاً، ولنرتفع نحو هذا السمو. وكيف نبتعد عن الأرض؟ بأن نفكر في السماويات. السماء فوق الأمطار وأيام الشتاء، ولا تُهزم من أحد. ونحن أيضاً يمكننا أن نكون هكذا، إن أردنا. السماء تبدو فقط أنها تعاني، لكنها في الحقيقة لا تتأثر بشيء. إذاً يجب ألا نتأثر نحن أيضاً، حتى وإن كان يبدو أننا نعاني. مثلما يحدث خلال فترة الشتاء، كثير من الناس لا يُميزون جمال السماء، بل يعتقدون انها تغيَّرت، بينما أولئك الذين يتناولون الأمور بحكمة يعرفون أنها لم تُصَب بشيء، هكذا نحن أيضاً خلال فترة الضيقات، يعتقد الكثيرون أننا تغيَّرنا مع هذه الضيقات، وإن الضيقة لمست قلوبنا، أما أولئك الذين يتناولون الأمور بحكمة، يعرفون أن الضيقة لا تُقلقنا.
ينبغي إذاً أن نصير سماء، ولنرتق إلى هذا العلو إلى حيث لا نعود نرى الناس يختلفون عن النمل ، ولا أقصد الفقراء فقط، ولا الأغنياء، بل حتى قائد الجيش أو الملك، فأنا لستُ أميّزُ الإمبراطور من الإنسان العامي. ولن نهتم لما هو مصنوع من الذهب أو من الفضة، ولا بالملابس المصنوعة من الحرير أو من الأرجوان. يبدو لنا ونحن متطلعون من هذا العلو أن كل شيء ذُباب. لا ضجة هناك، ولا صخب ولا ضوضاء.
وكيف يكون الوصول إلى هذا العلو ممكناً، طالماً أننا لا نزال نعيش في الأرض؟ أنني لا أكتفي بالكلام، بل إن أردت، سأوضح لك عملياً أولئك الذين وصلوا إلى هذا السمو. إذاً من هم هؤلاء؟ أنه بولس وكل من كان حوله، هؤلاء بالرغم من أنهم كانوا على الأرض، إلا أنهم عاشوا في السماء. ولماذا أقول عاشوا في السماء؟ لقد كانوا أعلى بكثير من السماء، بل وأعلى بكثير من السماء الثانية، وصعدوا حتى إلى الله ذاته. لأنه يقول "من سيفصلنا عن محبة المسيح أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف" (رو 8)، وأيضاً "ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى" (2 كو 4). أرأيت كيف أنه لم يعط أي إهتمام للأمور الأرضية؟ ولكي أبيّن لك أنه كان أعلى بكثير من السماوات، إسمع ذاك الذي يقول: "فإني مُتيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا".
أرأيت كيف أنه بعدما يتجاوز بالفكر كل شيء، يصعد عالياً، ليس فقط فوق هذا الكون، ولا فوق هذه السماوات، بل وفوق أسمى الكائنات؟ أرأيت مقدار السمو الذهني؟ أرأيت كيف تحوّل صانع الخيام هذا، لأنه أراد هذا السمو، وهو الذي قضى كل حياته في السوق؟ بالحقيقة لا يوجد أي عائق، إذ يمكننا جميعاً أن نعبر كل العوائق، إن كنا نريد ذلك بالطبع.
لأنه إذا كنا بارعين في فنون تفوق قدرة الكثيرين من الناس، فأننا سنحلق أكثر في ما لا يتطلب جهداً عظيماً. أخبرني، هل هناك أصعب من السير على حبل مشدود، كما لو على أرض صلبة، تختال عليه وتلبس ثياباً وتخلعها كما لو كنت على أريكة؟ ألا يبدو مثل هذا الأداء مرعباً لنا لدرجة أننا لا نرغب في النظر إليه، بل نخاف ونرتجف من المشهد ذاته؟ قل لي أيضاً، هل هناك أصعب من أن تضع سارية على رأسك، وأن تجلس على أعلاها طفلاً، وتقوم بحركات وألعاب عديدة كي تُبهج المشاهدين؟ وهل هناك أصعب من اللعب مع الكرة بالسيف؟ قل لي هل هناك أعسر من التنقيب في قعر البحر؟ يمكن للمرء أن يُحصي فنوناً أخرى لا تُعدُّ، ولا تحصى. لكن أيسرها الفضيلة، إذا شئنا، والصعود إلى السماء. أمام هذه، يكفي أن تكون لنا الإرادة، والباقي كله يهون.
لا تقل: أنا لا أستطيع، فإن هذا القول يُمثل إدانة للخالق، لأنه إذا كان قد خلقنا عاجزين، ثم يأمرنا بعد ذلك أن ننجز المستحيل، فهذا يعتبر إدانة له.
إذا لماذا لا يستطع الكثيرون تحقيق الفضيلة؟ يحدث هذا لأنهم لا يريدون. ولماذا لا يريدون؟ بسبب خمولهم. حتى أنهم إذا أرادوا، فإنهم سيستطيعون في كل الأحوال. ولهذا فإن الرسول بولس يقول "أريد أن يكون جميع الناس كما أنا" ( 1 كو 7). لأنه كان يعرف أن الجميع يستطيعون أن يكونوا مثله، لأنه ما كان له أن يقول هذا الكلام، إن كان تحقيقه مستحيل. أتريد أن تكون إنساناً يحيا بالفضيلة؟ إبدأ فقط. أخبرني حقاً في حالة كل الفنون والأعمال، حين نريد أن ننشغل بها هل يجب علينا أن نكتفي بالإرداة فقط، أم نسلم أنفسنا للأعمال بنشاط كبير؟ وأقصد بما أقوله الآتي: حين يريد شخص أن يصير حاكماً، لا يقول "أريد" ويكتفي بهذا. بل يسلم نفسه للعمل بكل نشاط. أيريد أحد أن يصير تاجراً، لا يقول فقط "أريد" بل يسلم نفسه للعمل. أيريد أحد أن يسافر أيضاً، لا يقول "أريد"، بل إنه يشرع في هذا العمل. في كل الحالات، لا يكفي فقط بأن تريد، بل يجب أن يُضاف إلى هذه الإرادة، العمل أيضاً، بينما هنا في المجال الروحي أتريد أن تصعد إلى السماء، وتقول "أريد" فقط؟ كيف إذاً تقول يكفي أن يريد المرء؟ الإرادة يجب أن ترتبط بالأعمال، يجب أن يتم البدء بالإرادة، ثم يعقب هذا جهاد الإنسان. بالتأكيد يكون الله معاوناً ومساعداً لنا في العمل، فقط يجب أن نشرع في العمل، أن نبدأ فيه وأن نهتم به، وأن نضعه في تفكيرنا، وسيتبع هذا كل الأمور الأخرى. أما إذا إستسلمنا للنوم العميق، وأنتظرنا لكي ندخل السماء، فلن نستطيع أبداً أن نرث ملكوت السموات، فلتكن لدينا الإرادة.
لماذا نفعل كل شيء من أجل هذه الحياة الحاضرة، التي سنتركها غداً؟ إذاً فلنفضل حياة الفضيلة، التي ستدوم في الحياة الأبدية التي سنعيش فيها إلى الأبد، وسنتمتع بالخيرات الأبدية والتي نرجو أن ننالها جميعاً بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والكرامة إلى الأبد آمين.
المرجع: 1- تفسير سفر العبرانيين للقديس يوحنا ذهبي الفم، العظة 16، ترجمة د. سعيد حكيم يعقوب، مركز دراسات الآباء بالقاهرة. 2-التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس، تفسير العبرانيين، جامعة البلمند