المرجو الانتظار قليلا سوف يتم التوجيه الى المدونة الجديدة وشكرا المرجو الانتظار قليلا سوف يتم التوجيه الى المدونة الجديدة وشكرا

الأحد، 26 أبريل 2015

بولس قلب المسكونة _ يوحنا ذهبي الفم

بولس قلب المسكونة _ يوحنا ذهبي الفم


بولس قلب المسكونة المتسع

القديس يوحنا ذهبي الفم 




من يصلي من أجلنا بعدما رقد بولس؟ أولئك الذين يحذون حذو بولس. فقط لنهيئ أنفسنا لنكون مستحقين لمثل هذا الشفاعة، لكي لا نسمع فقط صوت بولس هنا، بل وحين نرحل للحياة الأخرى نكون مستحقين لرؤية مصارع المسيح. أو بالأحرى، إن كنا نسمعه هنا فسنراه بلا شك هناك، حتى وإن كنا لا نقف بالقرب منه لكننا سنراه على كل حال وهو يتلألأ بجوار عرش الملك، حيث الشاروبيم يمجدون والسيرافيم يطيرون، هناك سنرى بولس، مع بطرس، كرئيس وقائد جوقة القديسين، وسنتمتع بمحبته الكريمة. لأنه إن كان وهو في هذه الحياة الحاضرة قد أحب الناس بهذا القدر الكبير، حتى أنه عندما كان أمامه إختيار الإنطلاق والوجود مع المسيح، إختار البقاء هنا في هذه الحياة ليتمم رسالته، فبالأكثر جداً سيُظهر محبته هناك بشكل أكثر دفئاً.



ولأجل هذا فأنا أحب روما، على الرغم من أنني استطيع أن أمتدحها لأسباب أخرى، مثل عظمتها، وآثارها، وجمالها، وكثافة سكانها، وسلطانها، وثراءها، وإنتصاراتها في الحروب. لكنني أترك كل هذه الأمور، وأعتبرها مباركة لهذا الأمر فقط، لأن بولس كتب لأهلها وأحبهم بشكل فائق، وتكلم معهم عندما كان يقيم بينهم، بل وأنهى حياته أيضاً فيها. لهذا السبب مدينة روما ذو مكانة بارزة أكثر من كل الأسباب الأخرى. وكبنيان عظيم وقوي لها كعينان مشرقتان أجساد القديسان بطرس وبولس. إن إشراقة السماء عندما ترسل الشمس أشعتها ليست بقدر إشراقة مدينة روما التي ترسل هذين المشعلين إلى كل أجزاء المسكونة. من هناك سيُختطفا بولس وبطرس إلى السماء، فكروا وأرتعدوا، أي مشهد سترى روما، سترى بولس وهو يقوم مع بطرس فجأة من ذلك القبر، ويخطفا لملاقاة المسيح (1 تس 4). أي زهرة سترسل روما إلى المسيح؟! أي تاجاً مزدوجاً سترتدي روما؟! أي سلاسل ذهبية ستتقلد بها روما؟! أي منابع تمتلكها روما؟! لهذا أنا مُعجب بالمدينة، ليس بسبب الذهب الكثير الموجود فيها، ليس بسبب الأعمدة، ولا بأي أمر آخر يتعلق بمظهرها، بل لأجل عامودي الكنيسة: بطرس وبولس.


ليتني أستطيع أن ألقي بنفسي الآن عند جسد بولس، وأتشبث بالقبر، وأرى رماد جسد ذاك الذي "أكمل نقائص شدائد المسيح في جسده" (كو 1)، ويحمل سماته في جسده (غلا 6)، الذي نشر البشارة في كل مكان. رماد ذلك الجسد الذي ركض به في كل مكان، رماد هذا الجسد الذي تكلم من خلاله المسيح، وأبرق النور من خلاله بشكل أكثر بهاءً من أي برق، وتحدث بواسطته في مواجهة الشياطين بصوت أكثر قوة ورعباً من أي رعد، الذي به قال ذلك الكلام الطوباوي: "كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل أخوتي" (رو 9)، وقد تحدث به "أمام ملوك ولم يخزى" (مز 119)، الذي به عرفنا من هو بولس ومن هو رب بولس!


إن الرعد لا يخيفنا بالقدر الذي تخاف به الشياطين من صوت بولس. لأنه إن كانوا قد أرتعبوا من ملابسه (أع 19)، فبالأكثر جداً سيرتعبون من صوته. هذا الصوت ساقهم مقيدين، هذا الصوت طهَّر العالم، هذا الصوت شفى الأمراض، أبعد الشر، ورفع الحق عالياً، إذ أن المسيح كان يركب فوقه، وإلى كل مكان ذهب معه. كان صوت بولس بمثابة الشاروبيم، لأنه كما أن المسيح يجلس فوق هذه القوات، هكذا كان يجلس المسيح فوق لسان بولس. خاصة وقد صارت كلمات بولس مستحقة لإستقبال المسيح، بكونه ينطق فقط بالكلمات المقبولة من المسيح، ويطير إلى إرتفاع لا يمكن وصفه، تماماً مثل السيرافيم. فهل يوجد ما هو أعلى من ذلك الصوت الذي قال "فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو 8). كم من الأجنحة يحمل هذا الصوت كما يبدو لك؟ كم من الأعين يمتلك هذا الصوت؟!
الصوت الذي قال: "لأننا لا نجهل أفكاره" (2 كو 2)، من أجل هذا هربت الشياطين ليس فقط حين كانوا يسمعونه يتكلم، بل حينما رأوا رداءه أيضاً.


أود رؤية رماد الفم الذي بواسطته تكلم المسيح بالعظائم والأسرار بل وأعظم مما تحدث بها عن نفسه، لأنه كما صنع أعمالاً عظيمة، تكلم أيضاً بعظائم من خلال تلاميذه، الذي بواسطتهم أعطى الروح القدس هذه الكتابات العجيبة الموحى بها للعالم!


لأنه أي صلاح لم يتكلم به ذلك الفم، طرّد الشياطين، حلَّ الخطايا، سد أفواه الطغاة، ألجم ألسنة الفلاسفة، قاد المسكونة إلى الله، أقنع برابرة بالإيمان، غيَّر كل أمور الأرض، بل وأمور السماء أدارها كما أراد، ربط وحلّ كل من أراد بحسب السلطان الذي أعطاه إياه الرب (2 كو 13).


ليس فقط رماد فمه أود أن أراه، بل أيضاً رماد قلبه، الذي لا يخطئ المرء إذا دعاه "قلب المسكونة"، وينبوع بركات لا تحصى، وبداية وعنصر حياتنا، لأن من هناك روح الحياة مُنح للجميع، ووُزع على أعضاء المسيح، وأرسل ليس عبر شرايين لكن بواسطة إختيار حر للأعمال الصالحة. هذا القلب كان متسعاً بهذا القدر الكبير حتى أنه إحتوى مدناً كاملة، وشعوباً وأمماً. يقول بولس: "قلبنا متسع" (2 كو 6)، لكن هذا القلب المتسع بهذا القدر حصرته وقمعته المحبة ذاتها التي جعلته متسعاً، إذ أنه يقول: "لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم" (2 كو 2). كم أود أن أرى هذا القلب حتى ولو بعد إنحلاله، القلب الذي كان يحترق عندما يعثر أحد، القلب الذي ولد كل الأولاد الذي تمخض بهم (غلا 4)، القلب الذي عاين الله لأن كل من له قلب نقي يعاين الله (مت 5)، القلب الذي صار ذبيحة إذ أن "ذبائح الله روح منكسرة"، القلب الذي كان أعلى من السموات، القلب الذي كان أوسع من المسكونة. الأكثر إشراقاً من أشعة الشمس، والأكثر وهجاً من النار، والأقوى من الماس.


القلب الذي تفجرت من داخله الأنهار، لأن الكتاب يقول: "تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 7)، حيث كان النبع الذي تفجَّر وروى ليس فقط سطح الأرض بل نفوس البشر، من هنا خرجت ليس فقط أنهار بل وينابيع دموع ليلاً ونهاراً. القلب الذي عاش الحياة الجديدة، ليست تلك الحياة التي نحياها، لأنه يقول: "فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل 2).

إذا فقلب بولس كان قلب المسيح وكان إناءً للروح القدس، وكتاباً للنعمة. أنه القلب الذي كان ينزعج من الشرور والخطايا، فيقول: "أخاف عليكم أن أكون قد تعبت فيكم عبثاً" (غل 4). "وكما خدعت الحية حواء بمكرها"، "لأني أخاف إذا جئت لا أجدكم كما أريد" (2 كو 12)، القلب الذي كان يخاف على ذاته أيضاً، إذ يقول: "حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً" (1 كو 9).


القلب الذي إستحق أن يحب المسيح كما لم يحبه أحد قط، القلب الذي إستهان بالموت وإحتقر جهنم، إلا أنه إنسحق بدموع الأخوة، إذ يقول: "ماذا تفعلون تبكون وتكسرون قلبي" (أع 21)، القلب الذي أحتمل إلى أقصى حد، إلا أنه لم يحتمل أن يبتعد عن أهل تسالونيكي ساعة واحدة! (1 تس2).


أود أن أرى رماد يديه اللتين كانتا في سلاسل، ومن خلال وضعهما على الآخرين كان الروح القدس يُمنح، واللتين كُتبت بهما الحروف الإلهية: "أنظروا ما أكبر الأحرف التي كتبتها إليكم بيدي" (غل 6)، وأيضاً "السلام بيدي أنا بولس" (1 كو 16)، أردت أن أرى رماد هاتين اليدين اللتين بمجرد أن رأتهما الأفعى سقطت في النار.

أود أن أرى رماد تلك العينين اللتين أُصيبتا بعمى مجيد، ثم إستعاد البصر مرة أخرى من أجل خلاص المسكونة، واللتين إستحقتا أن تنظرا المسيح، اللتين نظرتا الأمور الأرضية ولم تلتفتا إليها، اللتين نظرتا الأمور غير المرئية، العينان اللتان لم تعرفا النوم، وظلتا متيقظتان في منتصف الليل، ولم تتأثرا كما يحدث للأعين.

أود أن أرى رماد الرجلين اللتان ركضتا في أرجاء المسكونة دون أن تتعبا، الرجلان اللتان كانتا مقيدتين في المقطرة الخشبية، عندما حدثت زلزلة في السجن، الرجلان اللتان ذهبتا إلى مناطق آهلة بالسكان ومناطق قفرة، اللتان قاما برحلات وأسفار عديدة.

ولماذا أتكلم عن أعضاء منفصلة؟ أود أن أرى القبر كله الذي فيه حُفظت أسلحة البر، أسلحة النور، الأعضاء التي هي حية اليوم، لكنها جازت الإماتة وهي حية، التي كان المسيح يحيا فيها، الأعضاء المصلوبة عن العالم، أعضاء المسيح، اللابسة المسيح، هيكل الروح القدس، البناء المقدس، المقيدة بالروح (أع 20)، الراسخة في خوف الله، التي لها سمات المسيح.

هذا الجسد مثل سياج يحمي هذه المدينة، وهو أكثر آماناً من كل الأبراج والأسوار الحصينة. ومع هذا الجسد يوجد جسد بطرس، لأنه في حياته أيضاً كرمه، إذ قال: "صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس" (غل 1)، ولهذا عندما رقد أقرت النعمة بأن تعطيه مسكناً واحد مع بطرس.

أود أن أرى هذا الأسد الروحي، لأنه كما يبث الأسد غيظة في قطعان الذئاب، هكذا هجم بولس على عشيرة الشياطين والفلاسفة، ومثل هجوم الصاعقة نزل على حشد الشياطين. لأن الشيطان لم يجرؤ على دخول معركة في مواجهة بولس، بل كان يخاف جداً ويرتعد حتى عن بُعد، وكان يهرب بعيداً إذا رأى ظل بولس فقط أو سمع صوته. هكذا أيضاً سلم الزاني للشيطان – ولو عن بعد – إلا أنه أختطفه مرة أخرى من يده (1 كو 5، 2 كو 2)، وهكذا فعل مع آخرين أيضاً لكي يتعلموا ألا يجدفوا (1 تي 1).

إذاً ونحن نتفهم كل هذه الأمور، لنقف بشجاعة وثبات، إذ أن بولس كان إنساناً شريكاً لنا في نفس طبيعتنا، وله كل الأمور المشتركة معنا، لكنه بكونه أظهر محبة كبيرة نحو المسيح أرتفع فوق السموات، ووقف مع الملائكة. لذا إذا نهضنا قليلاً نحن أيضاً وأشعلنا بداخلنا تلك النار سوف يمكننا أن نتمثل بهذا القديس. لأنه لو كان هذا مستحيلاً ما كان له أن يصرخ قائلاً: "كونوا متمثلين بي كما أنا بالمسيح" (1 كو 11). إذاً لا يجب علينا أن نعجب فقط بالقديس بولس، ولا أن نكتفي بالإندهاش، بل علينا أن نقتدي به لنكون مستحقين أن نراه عندما نرحل من هذه الحياة ونشارك في المجد الذي لا يوصف. ليتنا جميعاً نكون مستحقين لهذا المجد بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح، الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.




Reference: Nicene and Post Nicene Series, Homilies on Epistle of Romans, John Chrysostom.


الترجمة العربية مأخوذة بتصرف من "تفسير رومية لذهبي الفم" ترجمة د. سعيد حكيم، مركز الآباء.
(والصورة لكاتدرائية بولس الرسول بروما حيث يوجد قبره)

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ارسل الموضوع لأصدقائك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
;