سبحوا الله _ يوحنا ذهبي الفم
المزمور 150
للقديس يوحنا ذهبي الفم
"سبحوا الله في جميع قديسيه"، (وفي نسخة أخرى: "في قديسه"، وأخرى "في الشخص المُقدّس الذي له"). هنا نجد إشارة إما للشعب، أو للحياة المقدسة أو للقديسين. نلاحظ كيف أن الكاتب بدوره ختم كتاب المزامير بتقديم الشكر والتسبيح، نتعلم من هذا أن يكون الشكر في بداية ونهاية كل أعمالنا وأقوالنا. لذلك يقول بولس أيضاً: "وكل ما عملتم بقول أو فعل فاعملوا الكل باسم الرب يسوع المسيح شاكرين الله والآب به" (كو 3). لهذا السبب العبارة الإفتتاحية من صلاتنا تبدأ أيضاً بقولنا "أبانا"، والتي تقال من جانب أولئك الذين يقدمون الشكر على الخيرات المقدمة لهم، مظهرين أنها كلها بسبب هذا الأسم (اسم المسيح). وبقولكم "أبانا"، أعترفتم ببنوتكم لله، وبإعترافكم بالبنوة أعلنتم أيضاً البر، والتقديس، والفداء، وغفران الخطايا، وشركة الروح القدس. فكل هذا يجب أن يكون حاضر مقدماً، حتى يمكننا التمتع بالبنوة، ونكون مستحقين أن ندعوه: "أبانا".
يبدو لي أنه يلمح بشيء آخر بالتحدث بهذه الطريقة: عبارة "في قديسيه" تعني "من خلال قديسيه". لذا قدموا الشكر والتسبيح لله لأنه قدّم للبشر مثل هذه الطريقة الرائعة للحياة وإدخالها إلى وجودنا، أو بكلمات أخرى، سبحوه لكونه جعل من البشر ملائكة.
لذا، بعد قوله "في قديسيه"، أضاف "سبحوه في جلد قدرته"، وأبرز ما قلته من قبل. كما تروا، الآية الأولى لها إهتمام أكثر لدى الله من الثانية، لأن السماء قد خلقت للبشر وليس البشر للسماء. من ناحية أخرى، هناك مترجم آخر جعلها " "في جلد قوته". يبدو لي أنه يشير مرة أخرى إلى شيء آخر، كما في المزمور السابق، إذ قال هناك "سبحوه يا جميع ملائكته" (مز 148)، أيضاً هنا يقول "سبحوه في جلد قوته"، أي أولئك الذين هم في فلك سمائه، فهو لا يتوقف على أن يتخذ القوات العلوية كشركاء ثابتين في التمجيد.
"سبحوه على مقدرته". (في نسخة أخرى، "من خلال سلطاته"). ما يعنيه هو هذا: سبحوا الله من خلال سلطاته، من خلال مقدرته، لأجل عجائبه ومآثره، لأجل القوة التي يستعلنها في كل الأمور، سواء العلوية أو السفلية، سواء المشتركة أو الخاصة، سواء الخاصة بمناسبة ما أو بكل المناسبات.
"سبحوه ككثرة عظمته"، كيف يكون هذا ممكناً، أن نجري تمجيداً يُساوي مقدار وفرة عظمته؟ هو لا يُطالب بأن يتساوى التمجيد مع عظمته، لكنه يقول بالنظر لمقدار عظمته قدموا في حدود قدراتكم - وبالقدر الذي يمكن البلوغ إليه وبالقدر الذي يمكن للبشر تقديمه - تسبيحاً لله العظيم، الذي عظمته فائقة جداً، إذ أنه لا أحد في الواقع يستحق أن يقدم مثل هذا التسبيح. هل ترى شوق النفس؟ ألا ترى عقلا مشتعلاً، يضغط، ويسعى جاهداً للتغلب حتى على محدوديته الخاصة، ومن ثم يطير بعيداً إلى السموات عينها، في إرتباط وثيق بالله، مستودعاً ذاته لله برغبة عميقة؟
"سبحوه بصوت البوق"، (وفي نسخة أخرى "بصوت القرن"). "سبحوه برباب وقيثارة"، (وفي نسخة أخرى "بأوتار وقيثارة")."سبحوه بدُف ورقص"، "سبحوه بالآلات الوترية" (وفي نسخة أخرى "بأوتار وقيثارة"). "سبحوه بصنوج الرَّنين"، "سبحوه بصنوج التهليل" (وفي نسخة أخرى "بصنوج ذات مغزى"). "كل نسمة فلتسبح اسم الرب".
أنه ينشط جميع الآلات، ويحثهم على عزف الموسيقى عليها كلها، فيثير ويلهب أذهانهم. وكما أنه يحثَّ اليهود على تمجيد الله بكل هذه الآلات، يحثنا نحن أيضاً على القيام بذلك بكل أعضائنا الجسمية – العين واللسان والأذن والأيدي. كما أشار بولس أيضاً بهذه الكلمات: "فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تُقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو 12).
العين تمجده عندما تكون نظراتها منضبطة. اللسان يمجده عندما يغني. السمع يمجده عندما لا يسمح بإيقاعات الأشرار أو بإغتياب القريب. الفكر يمجده عندما لا يُنتج مؤامرات كثيرة بل يَزخرُ بالمحبة. والأقدام تمجده عندما لا تركض وراء الشرور بل وراء تدبير الأعمال الصالحة. والأيدي تُمجده عندما لا تمتد إلى السرقة والجشع والعنف بل للصدقة والدفاع عن المظلومين. ومن ثم يصبح الشخص قيثارة رخيمة، تقدم لله نوعاً من الأنغام الروحانية المتناغمة. وقد أستودعت تلك الآلات الموسيقية إلى اليهود في ذلك الوقت لهذا السبب، بسبب ضعفهم ولتهدئة أرواحهم فتتوافق مع المحبة والوئام، ولإثارة أذهانهم لكي ينفذوا بإرتياح ما هو صالح ونافع لهم، وكان القصد منها أن تقودهم للتسبيح بحماس شديد، بواسطة مثل هذا الإقناع. لقد دبَّر الله أن يوقظهم من هذا التباطؤ واللامبالاة والكآبة بواسطة هذه الأداة، عن طريق إدخال حلاوة الموسيقى لمعالجة تصلّب مقامومتهم.
ما معنى "سبحوه بصنوج ذات مغزى"؟ هو ينطق بالمزامير لهذا المفعول: هم لا يتلوا فقط المزامير مع الصنج، ولا فقط مع القيثارة، لكنهم يجب أن يبلغوا بقدر الإمكان لمعنى المزامير من خلال الصنوج، من خلال الأبواق، من خلال القيثارات، وحماسهم وجهدهم في القيام بذلك يؤدي إلى فائدة كبيرة بالنسبة لهم.
"كل نسمة فلتسبح اسم الرب إلهنا". هكذا بعد أن استدعى السمائيين، وبعد أن ألهب حماس الناس، وبعد إحياء كل الآلات، ينتقل بعد ذلك إلى الطبيعة برمتها، ويدعوا كل الأجيال للغناء والتسبيح – الشيوخ والكبار والشباب والرجال والنساء – يدعوا جميع سكان العالم، فهو يبذر بالفعل من هنا بذور العهد الجديد في جميع أقاصي الأرض.
دعونا إذاً أن نُسبح نمجد الله بغير إنقطاع، ولا نغفل عن تقديم الشكر على كل شيء، قولاً وعملاً. كما تروا، هذه هي ذبيحتنا وتقدمتنا، هذه هي عبادتنا الفضلى، متشبهين بحياة الملائكة. إذا واظبنا على تمجيد الله بهذه الطريقة، سوف نحيا حياة بلا لوم ونتمتع بالخيرات الآتية. ليكن هذا نصيبنا المفرح، بفضل نعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة والكرامة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
Reference: Commentary on the Psalms, Volume 2, St. John Chrysostom, by Robert Charles Hill
ترجمة المدونة الآبائية ... http://erinipasy.blogspot.com/
ترجمة المدونة الآبائية ... http://erinipasy.blogspot.com/