من بين التعبيرات الخارجية لعبادتنا لله، تكريم رفات الشهداء والقديسين. وفي تكريمنا لقدِّيسي الله الذين رحلوا بنفوسهم إلى السماء، تُكرِّم الكنيسة المقدسة - في ذات الوقت - ما تبقَّى من رفاتهم وأجسادهم، إذا وُجدت في الأماكن التي استُشهدوا فيها أو عاشوا أو كانوا رهباناً أو رعاة فيها.
تكريم رفات الشهداء والقديسين أساسه:
تكريم رفات الشهداء والقديسين أساسه:
تجسُّد المسيح:
+ ففي العهد القديم لم يكن هناك تكريم لأجساد الأبرار، لأن هؤلاء الأبرار أنفسهم كانوا ينتظرون الخلاص وافتداء أجسادهم. كما أن أجساد الموتى كانت في حدِّ ذاتها - وبحسب ناموس العهد القديم - مُعتبرة أنها نجسة.
+ أما في العهد الجديد، وبعد تجسُّد المخلِّص، حدث ارتقاء، ليس فقط لمفهوم الإنسان في المسيح، بل وكذلك ارتقى مفهوم الجسد باعتباره هيكل الله ومسكن الروح القدس.
+ بل إن الرب نفسه، كلمة الله، تجسَّد وأخذ جسداً بشرياً. والمؤمنون بالمسيح دُعوا إلى تقديس - ليس فقط نفوسهم - بل وأيضاً أجسادهم بالمعمودية المقدسة، وسر الميرون المقدس، ثم بتقديسها بنوال الجسد والدم الطاهرين اللذين للمسيح.
وبهذا صارت أجسادهم هياكل حقيقية للروح القدس، كما ذكر ذلك القديس بولس الرسول: «أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم» (1كو 6: 19).
+ والكنيسة المقدسة في كل زمان، تبعت التقليد المقدس، فكانت تُقدِّم التكريم لرفات الشهداء والقديسين. وقد ظهر هذا التكريم هكذا:
أ - في جمع وحفظ بقايا قدِّيسي الله في الأماكن التي قضوا فيها حياتهم على الأرض، أو استُشهدوا فيها، أو كانوا رعاة لكنائسها. وهذا نعلمه من سِيَر القديسين منذ القرن الثاني الميلادي، ومن الشهادات في القرون التالية؛
ب - من الكشف عن رفات القديسين ونقلها إلى الأماكن الخاصة بها؛
ج - من بناء الكنائس والمذابح فوقها؛
د - من تأسيس تواريخ لذكرى هؤلاء القديسين واكتشاف رفاتهم المقدسة؛
هـ - من الحج إلى قبور هؤلاء القديسين وتكريمهم؛
و - من قانون الكنيسة بوضع رفات الشهداء القديسين على المذبح لتكريسها وإقامة القداس الإلهي.
+ وهذا التكريم الطبيعي المُقدَّم للرفات المقدسة له أساس من الواقع الروحي، أنَّ الله نفسه قد أوصى بتكريم وتشريف القديسين بالآيات والعجائب، ما يملأ كتباً بالشهادات عن قداستهم وعن عمل المسيح فيهم.
+ وقد حدث في العهد القديم بعض الإشارات القليلة عن قدِّيسين لم يُكرَّموا بالتكريم الواجب بعد انتقالهم، ولكن ظهرت آيات من أجسادهم، مثل: لمس أحد الموتى عظام أليشع النبي، فعاش وقام على رجليه (2مل 13: 22،21)؛ كما أن جسد النبي إيليا رُفِعَ إلى السماء حيّاً، حيث كان الرداء الذي تركه لتلميذه أليشع سبباً في شقِّ نهر الأردن حينما لمسه الرداء، فاستطاع أليشع أن يعبُر النهر بعد انشقاقه.
+ فإذا رجعنا إلى العهد الجديد، فإننا نقرأ في سفر أعمال الرسل (19: 12،11): «وكان الله يصنع على يديِّ بولس قوات غير المعتادة، حتى كان يُؤتَى عن جسده بمناديل ومآزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشريرة منهم».
وقد شهد آباء الكنيسة ومعلِّموها أمام سامعيهم وقارئي عظاتهم عن المعجزات التي حدثت من بقايا رفات القديسين، وكانوا يدعون مُعاصريهم لأن يكونوا شهوداً لهذا الحق. فمثلاً القديس أمبروسيوس يقول في عظته على اكتشاف رفات القديسَيْن ”جيرفاسيوس“ و”بروستاسيوس“:
[لقد عرفتم، وربما رأيتم بأنفسكم الكثيرين مِمَّن تخلَّصوا من الشياطين، أو الذين بمجرد لمس ثياب القديسين بأيديهم شُفُوا من أسقامهم. إن معجزات الأقدمين قد تجدَّدت منذ مجيء الرب يسوع، حيث انسكبت على الأرض نعمة غزيرة جداً! أنتم رأيتم الكثيرين الذين شُفُوا بمجرد ظِل أحد القديسين].
ونقرأ مثل هذه الشهادات في كتابات القديس غريغوريوس اللاهوتي، والقديس أفرآم السرياني، والقديس يوحنا ذهبي الفم، والقديس أُغسطينوس، وغيرهم.
+ ومنذ بداية القرن الثاني، نجد شهادات عن التكريم الذي يُقدِّمه المسيحيون لرفات القديسين. ففي وصف استشهاد القديس إغناطيوس المُلقَّب بالـ ”ثيئوفوروس“ أي ”الحامل الله“ أسقف أنطاكية، يُقدِّم كاتب سيرة استشهاده هذا التصريح:
[بأنَّ ما تبقَّى من جسده (لأنه تمزَّق إلى قطع متناثرة بسبب الوحوش التي هاجمته)، جمعها المؤمنون وأخذوها إلى أنطاكية، ولفُّوها في حرير، ككنز للنعمة التي تبقَّت من الشهيد، كنزاً صار للكنيسة].
+ ويشهد القديس يوحنا ذهبي الفم أن سكَّان المدن، وأولها روما، تلقوا هذه الرفات يداً بيد، وحملوها على أكتافهم إلى:
[مدينة أنطاكية، مُسبِّحين الانتصار العظيم، ومُمجِّدين المجاهد الشهيد].
+ ونفس الأمر حدث أثناء استشهاد القديس بوليكاربوس أسقف أزمير (سميرنا)، وحَرْق جسده بأمر الوالي، فإنَّ المسيحيين:
[جمعوا عظامه ككنز أغلى من الحجارة الكريمة، وأنقى من الذهب؛ ووضعوها في مكانها اللائق للاحتفال بيوم ميلاده الاستشهادي، ومن أجل تعليم وتثبيت المؤمنين المسيحيين الآتين فيما بعد].
معايير ومحاذير في طقس رفات
الشهداء والقدِّيسين:
+ قرَّر مجمع ”غنغرا“ المكاني حوالي سنة 340م، عقوبة الفرز لمَن يحتقرون رفات القديسين.
+ ليس شرطاً أن لا يتحلَّل جسد القديس أو الشهيد. كما أن عدم تحلُّل جسد إنسان متوفي لا يقطع بأنه قديس، ذلك لأن تحلُّل الأجساد أو عدم تحلُّلها يرجع إلى عوامل طبيعية لا تمتُّ للقداسة أو عدم القداسة بصلة. جسد المسيح وحده هو الذي لم يَنَل فساداً، لأنه هو وحده الذي كان بلا خطية.
+ لم يكن ممكناً تقسيم رفات القديس ولا اقتطاع أو نقل جزء منه لأماكن أخرى، وبالتالي المتاجرة فيه. هـذه الممارسات كانت ممنوعة قديماً بحكم القانون الروماني Codex Theodosians (الذي أصدره الإمبراطور المسيحي ثيئودوسيوس). ولكن لأن هذا القانون لم يُنفَّذ في الشرق، فقد تمَّ نقل وتقسيم رفات القديس بابيلاس (أنطاكية - سنة 351م)، ثم ترحيلها إلى القسطنطينية.
إلاَّ أنه في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فقد امتنع نقل أعضاء القديس إلى خارج ديره، أو الشهيد بعيداً عن المكان الذي استُشهِد فيه. وكمثال لهذا، حادثة رجوع جسد القديس أنبا مقار إلى ديره بعد ما سرقه أهل شبشير (بلدة القديس القديمة). ومثل هذه الحادثة تكرَّرت في سِيَر قديسين آخرين.
+ ولكن، من جهةٍ أخرى، في سِيَر بعض قدِّيسي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، كان الأمر مختلفاً. فالقديس أنطونيوس خشي من مثل هذا التكريم لرفاته، فطلب إخفاءه (كما ورد في سيرة القديس أنطونيوس بقلم القديس أثناسيوس الرسولي)؛ وكذلك القديس باخوميوس؛ وغيرهما من القديسين الأقباط بالذات.
ولكن بسبب كثرة الشهداء في الأزمنة القديمة، فقد نشأت تجارة بيع الرفات أو أجزاء منها؛ لذلك كثر بناء الكنائس الصغيرة (مقامات للشهداء) في الحقول وعلى جوانب الطرق. لذلك أصدر مجمع قرطاجنة المكاني القانون رقم 83 الذي يقول:
[استحسن المجمع أنَّ المذابح التي نُصبت في الحقول وعلى جوانب الطرق مقاماتٍ للشهداء، ولم يكن فيها أجساد أو رفات للشهداء، أو لم يكن في الإمكان إثبات وجودها هناك؛ يجب على الأساقفة أصحاب السلطة أن يأمروا بهدمها إذا أمكن القيام بهذا. على أنه إذا استحال هذا الأمر بسبب هياج الجماهير، فيجب أن يعظوا الشعب على كلِّ حالٍ بألاَّ يُتردَّد على هذه الأماكن.
ويجب ألاَّ يُسمح بإقامة تذكارات الشهداء إلاَّ حيث توجد أجسادهم، أو بعض رفاتهم المقدسة، أو في الأماكن التي شاع - بموجب تقليد قديم - أنها كانت مسكناً للشهيد أو مِلكاً له أو البقعة التي تمَّ فيها استشهاده. أما المذابح التي نُصبت في أيِّ موضع بسبب أضغاث أحلام، أو استعلانات باطلة لبعض القوم؛ فيجب كشف بطلان الروايات بشأنها].
+ والقصد من تحديد أماكن حفظ رفات القديسين، هو الانتفاع من تذكُّر سيرتهم وقدوتهم التي عاشوها وسط شعبهم أو ديرهم، والاستشفاع بصلواتهم كما كانوا يفعلون أثناء حياتهم في هذا العالم.
+ لذلك فنقل رفات قديسين إلى أماكن غير التي عاشوا فيها، ممنوع بموجب تقليد الكنيسة المقدسة.
بركة صلوات الشهداء والقديسين في كل مكان وكل زمان تكون معنا جميعاً، آمين. +