نقد أزلية الكون
احتجاج “اللانهائية”، هو احتجاج الحادى معروف على أن الكون أزلى؛ أى أن الكون عمره لانهائى. هناك بيانات علمية تثبت أن الكون له بداية، مثل نظرية الانفجار العظيم. لكن وليام لين كريج، أستاذ الفلسفة المميز فى كلية تالبوت اللاهوتية، جامعة بيولا، قدم نقداً مميزاً لهذا الاحتجاج؛ مستخدماً فيه علم الكلام الذى طوره الفلاسفة المسلمين. قام كريج بتسمية هذه الحجة باسم “احتجاج الكلام”، نسبة إلى علم الكلام، و تقول:”كل ما له بداية، له مُسبب”. الاحتجاج لا يقول أن كل “موجود” له مُسبب، بل “كل ما له بداية”، و الذى يمكن التعبير عنه بـ “لكل حادث علة”؛ أى لكل ما جاء إلى الوجود، مُسبب تسبب فى وجوده. و فى هذا رداً على السذاجة القائلة: إذن فمن أوجد الله؟ بينما المؤمنون لا يقولون أن الله له بداية، و بالتالى لا يمكن تطبيق هذا الاحتجاج عليه!
هذا الاحتجاج لا يمكن نفيه ولا يمكن دحضه، لأنه منطق عقلانى ثبت بالعقل أولاً a priori، و ثبت بالتجربة ثانيةً posteriori. فإذا أردنا أن نقول أن للكون مسبب، لابد أن يكون للكون بداية. هناك من الملحدين من يقول أن الكون أزلى، ليس له بداية، و ذلك لنفى وجود مُسبب (أى الخالق، باللغة الدينية) له. و من ضمن الاحتجاجات الكثيرة فى نقد هذا الادعاء، قدم وليام لين كريج نقداً رياضياً و فلسفياً لاحتجاج اللانهائية. فصّل كريج فى هذا الاحتجاج فى كتب كثيرة، و لكن أسهل و أبسط صيغة له وجدتها فى مناظرته مع والتر سينوت ارمسترونج، أستاذ الفلسفة فى كلية دارتموث، و هو ملحد، و سوف أقدمه هنا
[1].
ملخص الاحتجاج أن فكرة “اللانهائية” هى مجرد فكرة عقلية، لا وجود لها فى الواقع. فبحسب كلمات كريج فقد:”أدرك الرياضيين أن وجود عدد لانهائى فعلى من الأحداث، سوف يؤدى إلى تناقضات ذاتية”
[2]. ثم بعد ذلك يعطى مثالاً رياضياً، و هو: ما نتيجة طرح مالانهاية من مالانهاية؟ الإجابة سوف تكون متضاربة. مثلاً: ما نتيجة طرح الأرقام الفردية من الأرقام الطبيعية؟ النتيجة هى مالانهاية. حسناً، و ماذا عن طرح الأرقام الأكبر من 2 من الأرقام الطبيعية؟ النتيجة هى 3! هكذا توصلنا إلى نتائج متضاربة، رغم أننا فى هذين المثالين:”طرحنا كميات متاطبقة من كميات متطابقة، فخرجنا بإجابات متناقضة”[3]. و فى الحقيقة، نستطيع أن نحصل على نتائج من هذه العملية، من 0 إلى مالانهاية!
يقول كريج، أن ديفيد هيلبيرت أكبر متخصص فى الرياضيات أكد قائلاً:”المالانهاية غير موجودة أبداً فى الواقع. انها غير موجودة فى الطبيعة، ولا هى توفر أساساً مُقنناً للفكر العقلانى”
[4]. مشكلة المالانهاية مع عمر الكون لا تقف فقط عند الكون فى حد ذاته، بل تمتد إلى الأحداث التى تتم. معنى أن الكون أزلى، أننا لدينا أحداث لانهائية تمت فى الكون. و هذه معضلة أخرى تسببها المالانهاية؛ أنه كما لا يمكن أن تُوجد كوناً أزلياً، فلا يمكن أن يكون هناك عدد لانهائى من الأحداث تم فى الكون. و:”لأن أحداث الماضى واقعية و ليست مجرد أفكاراً، فإن عدد أحداث الماضى يجب أن يكون نهائياً”، أى يجب أن يكون له بداية. هذا الاحتجاج الفلسفى أيده الاحتجاج العلمى فى نظرية الانفجار العظيم، و التى تثبت أن الكون (الزمان – المكان) جاء للوجود قبل 15 مليار عام تقريباً.
نرتب الحقائق التى توصلنا لها الآن:
1- كل ما له بداية له مُسبب.
2- الكون له بداية.
3- إذن، الكون له مُسبب.
هذه النتيجة النهائية حقيقية، لأنها نتيجة الحقيقتين الأولى و الثانية.
و ربما يكون قول الفيزيائى الفلكى الشهير آرثر ادينجتون:”البداية (أى بداية الكون) تشتمل على مصاعب لا تُقهر، إلا لو اتفقنا أن ننظر لها أنها خارقة للطبيعة بصراحة”، هو الحل الوحيد لهذه المعضلات. فلقد كان هناك وقت ما، لم يكن فيه زمان ولا مكان.
هناك مُسبب لهذا الكون، و هذا المُسبب لا يمكن أن يكون له مُسبب (أى أن يكون له بداية)، غير متغير، أبدى، أزلى، غير محدود بمكان، و غير مادى. لا يُمكن أن يكون له مُسبب لأننا رأينا أنه لا يوجد شىء اسمه عدد لانهائى من المُسببات. لابد أن يكون فوق الزمان، لأنه هو الذى أوجد الزمان، فلا يحده الزمان، و لهذا فهو أبدى و أزلى و غير متغير (على الأقل، فيما يخص الكون). غير محدود بمكان لأنه هو الذى خلق المكان، أى هو الذى أوجد المكان. غير مادى لأنه هو الذى خلق المادة. بإختصار، لا يمكن للخالق أن يحده ما خلقه هو، لأن ما خلقه هو لم يكن له وجود قبل أن يُخلق.
بالإضافة إلى ذلك، فهذا الخالق شخص، و ليس مجرد قوة خارقة. الدليل على ذلك هو الذكاء و التعقيد و التخصص الذين نلاحظهما فى المواد المُصممة. و لو أن الانتخاب الطبيعى يستطيع محاولة تفسير هذا الذكاء، رغم أن أسبابه غير مقنعة أبداً، فلم يقدم تفسيراً لكيفية تطور الأنظمة المعقدة الغير قابلة للإختزال، ولا التعقيدات المتخصصة
[5].
ما هو النقد المُوجه لهذا التفسير لنشأة الكون؟
يُعدد وليام لين كريج بعض الاعتراضات التى عادةً ما تُوجه لهذا التفسير، و هى كالتالى:
1- فى نقد “كل ما له بداية له مُسبب”، يُقال ليس كل ما له بداية لابد له من مُسبب، و المثال على ذلك هو بعض الأحداث التى تحدث على المستويات الداخلية فى الذرة. هذه الأحداث يُقال أنها تحدث بدون سبب. و هناك بعض التفسيرات لنشأة الكون، تقول بأنه ظهر فجأة للوجود دون مُسبب فى الفراغ الكمى. و يرد كريج قائلاً، أنه رغم أن ليس كل علماء الفيزياء يوافقون على أن هذه الأحداث تحدث بدون مُسبب، فإنها لها سبب بالفعل؛ و هو أنها نتيجة تموجات عفوية من الطاقة الموجودة فى الفراغ الكمى. و يُعرف كريج “الفراغ الكمى”، أنه ليس كما تقول المجلات الشعبية بأنه “لاشىء”، و لكنه:”بحر من الطاقة المتموجة”
[6].
2- فى نقد “لا يوجد مالانهاية فى الواقع” يُقال هناك بالفعل لانهاية فى الرياضيات، فالأرقام الطبيعية كل رقم فيها هو “عضو” فى سلسلة لانهائية. و رد كريج قائلاً أنه حتى رغم أن الرياضيين مختلفين فى هذا الأمر، فإن وجود المالانهاية فى الرياضيات، لا يعنى وجود مالانهاية فى الواقع الكونى، و هو الأمر المطلوب اثباته ليكون هناك نقاش حول امكانية أزلية الكون فلسفياً. بالإضافة إلى ذلك، هناك فرق بين المالانهاية الفعلية و المالانهاية الممكنة، فالأولى هى التى يجب أن تكون موجودة فى الواقع، بينما الثانية هى مجرد إمكانية أو خيار موجود لكننا لا نصل له أبداً. فهؤلاء يقتربون من المالانهاية بإعتبارها حد معين، غير أنهم لا يصلون لها[7].
3- بعض الملحدين قالوا أن الاستنتاج لا يتمتع بالتماسك المطلوب، لأن سبب الحادث لابد أن يسبق تأثير السبب (أى حدوث الحادث)، لكن فى حالة الانفجار العظيم لا يوجد فارق زمنى قبل حدوثه. رد كريج قائلاً أنه يوجد مسببات و تأثيرات كثيرة متزامنة. ببساطة، اللحظة التى سببّ الله فيها الانفجار، هى التى حدث فيها الانفجار. فالله قد يكون كائناً قبل الإنفجار فى زمان غير مادى، أو يكون بلا زمان ميتافيزيقى و دخل الزمان لحظة حدوث الانفجار[8].
هذا بإختصار نقد وليام لين كريج لإحتجاج أزلية الكون، و تفسير نشأة الكون كدليل على وجود الله، مستخدماً زاويتين: حجة الكلام (فلسفياً)، و حجة العلم (فيزيائياً).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]William Lane Craig & Walter Sinnott-Armstrong, God? A Debate Between A Christian & An Atheist, Oxford University Press, 2004.
[2] Ibid, P. 4
[3] Ibid
[4] David Hillbert, On The Infinite, in: Philosophy of Mathematics, Edited By Paul Benacerraf & Hillary Putnam, P. 139. Cited in Craig, ibid, P. 4.
[5] هذا المقطع هو النتيجة النهائية لنظرية “التصميم الذكى”، بديل الدليل الغائى، و هى نظرية تقول بأننا نستطيع أن نلمح ذكاء فى تصميم الكائنات الحية و الطبيعة و الكون. صحيح أن رواد هذه النظرية مسيحيين، غير أن ملاحظة وجود عامل عقلى فى الكون ترجع لآباء الفلسفة اليونانية، مثل هيراكليتوس، افلاطون، و أرسطو. لم يتعرض أى مفكر مسيحى لوجود عامل عقلى فى الكون، بالتفصيل، قبل توما الأكوينى فى القرن الثالث عشر. و بالتالى، فهى لا تُبنى على أساس دينى. بالإضافة إلى ذلك، فهناك عدد متزايد من العلماء غير المسيحيين، بدأوا فى الإقتناع بهذه النظرية. راجع موقع معهد ديسكفرى للمزيد www.discovery.org . و يُمكنك مراجعة كتاب “القضية…الخالق”، لى ستروبل، و قد صدرت ترجمته العربية عن مكتبة دار الكلمة.
[6] God?, P. 6
[7] Ibid, P. 8
[8] Ibid, P. 9