14- الفصل الخامس: الليتورﭽيا والعقيدة
ما هي الليتورجيا؟
ترتيب الليتورﭽيا
كتب الليتورﭽيا
كيف صيغت هذه الكتب؟
في الصلاة بالليتورﭽيا
الطقس الكنسي
ما هي الليتورجيا؟
المقصود بالليتورﭼيا (لفظًا) العمل الجماعي الذي يشترك فيه معنا كل الشعب، (ليتو = شعب، إرﭺ = عمل). ومعناها (اصطلاحًا) العبادة العامة الجماهيرية المنظمة، والتي يشترك فيها السماويون مع الأرضيين بحضور الله نفسه... "حيثما اجتمع اثنان او ثلاثة بأسمى فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20).
والليتورﭽيا هي صلوات الأسرار المقدسة.. التناول، والمعمودية، ومسحة المرضى، والإكليل، وطقس سيامات الكهنوت، وكذلك صلوات أخرى ليست سرائرية كاللقان، والسجدة، والبصخة، والعشية وباكر، والتسبحة.. الخ فكل الصلوات المرتبة في الكنيسة هي ليتورﭽيات.
ترتيب الليتورﭽيا:
لقد وضع السيد المسيح أساسات الليتورﭽيا عندما:
+ أمر بصنع القداس: "اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي" (لو 22: 19)، (1 كو 11: 24، 25)
+ وعندما أمر بالمعمودية: "وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (مت 28: 19).
+ وعندما أمر أن نصلى معًا: "فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ" (مت 6: 9).
+ وعندما أظهر لنا أن الزواج هو رابطة إلهية: "فَالَّذِي جَمَعَهُ اللهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ" (مت 19: 6).
ثم ترك للكنيسة حرية صياغة كلمات الصلوات وترتيبها...
+ "وَأَمَّا الأُمُورُ الْبَاقِيَةُ فَعِنْدَمَا أَجِيءُ أُرَتِّبُهَا" (1 كو 11: 34).
+ "تَعْلِيمَ الْمَعْمُودِيَّاتِ، وَوَضْعَ الأَيَادِي، قِيَامَةَ الأَمْوَاتِ، وَالدَّيْنُونَةَ الأَبَدِيَّةَ، وَهذَا سَنَفْعَلُهُ إِنْ أَذِنَ اللهُ" (عب 6: 2، 3).
لذلك.. فقد كتب الآباء الرسل ومن بعدهم آباء الكنيسة... صِيّغ الصلوات المقدسة المستخدمة في الكنيسة وفي الأسرار، وصار لدينا عدد ضخم من هذه النصوص المقدسة المليئة بالروحانية العميقة، والتي أيضًا تحمل فكرًا عقيديًا أصيلَا.
كتب الليتورﭽيا
وكتب الليتورﭽيا في الكنيسة هي:
الخولاجي، والإبصلمودية، والأﭽبية، وكتاب البصخة، واللقان والسجدة، وكتاب الصلوات (القنديل، والتجنيز، والمعمودية، والإكليل)، والقَطَمَارْس.
لقد صاغ الآباء القديسون هذه الكتب، فصارت ذخيرة مقدسة في كنيستنا، تحمل فكر الآباء وروحانيتهم، وطريقة ممارساتهم للصلاة وللحياة الروحية.
كيف صيغت هذه الكتب؟
St-Takla.org Image: Coptic Priest and a Deacon in the Holy Liturgy, by Tasoni Sawsan
صورة في موقع الأنبا تكلا: كاهن قبطي وشماس - رسم تاسوني سوسن
|
المادة الأساسية التي صيغت منها هذه الكتب هي: نصوص الكتاب المقدس من مزامير وتسابيح وتعبيرات كتابية، ونستطيع -على سبيل المثال- أن نتبع الشواهد المستخدمة في القداس عندما نتصفح الخولاجي الكبير، حيث توجد في الحواشي شواهد الآيات المقتبسة من الكتاب المقدس.
ولقد اهتم الآباء الرسل، وآباء الكنيسة من بعدهم.. أن يثبتوا ويصيغوا الفكر العقيدي، في صورة الصلوات التي يستخدمونها في الليتورﭽيات، فصارت بذلك العقيدة صلاة.. وليست مجرد فلسفات فكرية. لذلك فعندما نصلى إنما نعلن مفاهيمنا الإيمانية فيما نتكلم بها مع الله.
ففي الصلاة بالليتورﭽيا:
+ نعلن إيماننا بالثالوث القدوس، وإيماننا بتجسد الابن الوحيد، وفدائه لنا على الصليب المقدس.
+ ونعلن إيماننا بالمجيء الثاني، والدينونة العامة، وقيامة الجسد.
+ ونعلن إيماننا بقيمة المعمودية والإفخارستيا للخلاص، وكذلك إيماننا بعمل الروح القدس فينا وفي الكنيسة.
+ ونعلن أيضًا إيماننا بأن العذراء مريم هي الثيؤطوكس (والدة الإله)، وإيماننا بشفاعة القديسين، وحياة الراقدين الذين انتقلوا إلى السماء ومازالوا أحياء هناك.
وبالإجمال... فإن كل الفكر العقيدي صار مُصَاغًا في صورة صلوات... نُسَبِح بها الله، ونعلن في نفس الوقت إيماننا النقي الأصيل فيما نصلى به.
والليتورﭽيا المقدسة تحمل فكرنا العقيدي، وتشرحه في صيغ بسيطة محفوظة، ومتداولة بين الشعب (صغار وكبار)، فتُثبِّت في أذهان الناس حقائق إلهية عالية.. تشرح علاقتنا بالله، ومفهومنا من جهته، وكيف نتعامل معه، وماذا نقول في حضرته.
فلا توجد عقيدة في المسيحية إلا ومستعلنة بوضوح، ومشروحة باستفاضة في الليتورﭽيا الغنية، كذلك لا توجد صلوة نتلوها في الكنيسة إلا ولها البعد العقيدي العميق الرزين.
يكفي على سبيل المثال أن كل شعبنا يحفظ ويدرك أن:
(1) اللاهوت لم يفارق الناسوت لحظة واحدة ولا طرفة عين.
(2) اللاهوت متحد بالناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.
(3) الله مات عنا (بموتك يا رب نبشر، يا مَنْ ذاق الموت بالجسد).
(4) المسيح (أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له).
وذلك بسبب صيغ الصلوات المقدسة التي في القداس الإلهي، ويحفظها الشعب عن ظهر قلب بسبب التكرار اليومي لها.
وليست الصلوات فقط بل أيضًا الموسيقى نفسها المصاحبة للصلوات، وكذلك الأيقونات والبخور، والأضواء، والملابس، والستور، والترتيبات، والأصوات المتناسقة.
كل هذه لها معاني لاهوتية وعقيدية، ولها آثارها الروحية والنفسية العميقة في نفوس المصلين الخاشعين، وتربط النفس بالله في الكنيسة وبقوة.
والترتيب الطقسي نفسه لليتورﭽيا.. يشرح قصة الخلاص ويستحضرها، فالسنة الليتورﭽية، والأعياد والمواسم، وترتيب القداس، ونظام المعموديات، والأصوام.. وكل ما في الكنيسة إنما قد ترتب بخطة إلهية مقدسة، تعلن عن عمل الله الخلاص في الناس.
إن الكنيسة المقدمة عندما تجتمع للصلاة، فإنها تمارس الليتورﭽيا، وفي نفس الوقت تعلن إيمانها وعقيدتها.
وكل شيء في الكنيسة مبنى على هذا الإيمان وهذه العقيدة المقدسة... فكيف إذا نتغاضى عن العقيدة والإيمان؟
لقد برهن الآباء القديسون بترتيبهم لليتورجيا، على حكمنهم الغالية، وفهمهم السامي الرفيع لأهمية العقيدة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وتثبيتها في قلوب وأذهان وحياة المؤمنين، وكانت وسيلتهم الرائعة في ذلك تدوينها في الليتورجيا.
St-Takla.org Image: A priest praying the Holy Liturgy (mass) and holding the Holy Lamb, and a deacon beside him carrying the flash of the Holy Blood - Coptic art
صورة في موقع الأنبا تكلا: أب كاهن يصلي صلاة القداس الإلهي وهو يمسك الحمل المقدس، وبجانبه شماس يحمل قارورة الدم - فن قبطي
|
ولقد اقتبس أريوس نفس المنهج -للأسف- حيث صاغ (كل أفكاره الهرُطقية) في صورة ترانيم، وكاد أن ينشرها في كل البلاد، لولا صحوة وانتباه قياداتالكنيسة آنذاك، ممثلة في البابا البطريرك بطرس خاتم الشهداء ثم الباباالكسندروس وشماسه التقى أثناسيوس الرسولي.. لذلك قيل: "كاد العالم أن يكون أريوسيًا، لولا القديس أثناسيوس الرسولي".
كان أريوس يعرف تمامًا قيمة الليتورﭽيا في حفظ العقيدة وصيانتها، ولذلك استخدم نفس السلاح بطريقته الخاطئة.. وهو نفس ما يحاول البعض الآن عمله.. بنشر ترانيم تحمل أفكارًا منحرفة، أو على الأقل تُغَيّب الفكر الأرثوذكسي.
على كل الأحوال... ما يهمنا في هذا المقال هو إدراك قدر اهتمام الآباءبالعقيدة، وربطها بحياتهم التقوية، وصلواتهم النسكية من خلال الليتورﭽيا المقدسة.
فلنكن كآبائنا القديسين، ونسلك في طريقهم وعلى أثارهم، لنصل مثلهم إلى المجد الأبدي.
والذي يحدد نظام وترتيب الليتورﭽيا في الكنيسة هو الطقس. فماذا عن الطقس؟
الطقس الكنسي:
كنيستنا كنيسة طقسية.. والطقس كلمة يونانية تعنى الترتيب والنظام.
وقد أمرنا الكتاب المقدس بتنظيم العبادة...
+ "وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ" (1 كو14: 40).
ونهانا عن العبادة غير المنظمة..
+ "وَنَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: أَنْذِرُوا الَّذِينَ بِلاَ تَرْتِيبٍ" (1 تس5: 14).
+ "ثُمَّ نُوصِيكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ، وَلَيْسَ حَسَبَ التَّعْلِيمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا" (2 تس3: 6).
+ "لأَنَّنَا لَمْ نَسْلُكْ بِلاَ تَرْتِيبٍ بَيْنَكُمْ" (2 تس3: 7).
وكانت أحد وظائف الأسقف أن يرتب الكنيسة (بطقسها)... "مِنْ أَجْلِ هذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ الأُمُورِ النَّاقِصَةِ، وَتُقِيمَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شُيُوخًا (قسوسًا) كَمَا أَوْصَيْتُكَ" (تى1: 5).
+ ففي العهد القديم... أمر الله موسى النبي أن يرتب العبادة، وينظمها حتى تكون في مجد. وطبعًا بالأولى جدًا أن تكون خدمة العهد الجديد أكثر تنظيمًا وأكثر مجدًا "لأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الدَّيْنُونَةِ مَجْدًا، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا تَزِيدُ خِدْمَةُ الْبِرِّ فِي مَجْدٍ!" (2 كو3: 9). وكان معيار الخدمة في العهد القديم أنها على "ترتيب (طقس)داود ملك إسرائيل" (عز3: 10).
+ أما في العهد الجديد... فهي على نظام وترتيب السيد المسيح نفسه... وهذا ما مدحه القديس بولس الرسول في أهل كولوسي: "فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِبًا فِي الْجَسَدِ لكِنِّي مَعَكُمْ فِي الرُّوحِ، فَرِحًا، وَنَاظِرًا تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي الْمَسِيحِ" (كو2: 5). لأنه سبق أن رتب هذه الأمور بنفسه في الكنائس التي أسسها "وَأَمَّا الأُمُورُ الْبَاقِيَةُ فَعِنْدَمَا أَجِيءُ أُرَتِّبُهَا" (1 كو11: 34).
والطقس الكنسي يشمل:
+ نظام الصلاة... "فَمَا هُوَ إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ؟ مَتَى اجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ، لَهُ تَعْلِيمٌ، لَهُ لِسَانٌ، لَهُ إِعْلاَنٌ، لَهُ تَرْجَمَةٌ. فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَانِ" (1 كو14: 26).
+ ونظام الصوم ومواعيده... "وَلَمَّا مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ، وَصَارَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ خَطِرًا، إِذْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْضًا قَدْ مَضَى، جَعَلَ بُولُسُ يُنْذِرُهُمْ" (اع 27: 9).
+ وكذلك يشمل الأعياد ومواعيدها... "بَلْ وَدَّعَهُمْ قَائِلًا: «يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ حَال أَنْ أَعْمَلَ الْعِيدَ الْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ" (أع 18: 21). "إِذًا لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ" (1كو5: 8)... ليس بالنظام اليهودي بل بالمسيحي، حيث توجد هذه القاعدة: "فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ" (كو 2: 16). أي أننا غير ملتزمين بالأعياد والمواسم اليهودية، فالأعياد التي كان يحتفل بها معلمنا بولس كانت أعيادًا مسيحية بكل تأكيد.
+ ويحدد الطقس الكنسي أيضًا اللحن، والنغمة، والكلام الذي يقال في كل مناسبة... لكي نعيش معا حياة السيد المسيح بكل مراحلها على مدار السنة (البشارة ــ الميلاد ــ الصوم ــ المعجزات ــ الصليب ــ القيامة ــ الصعود ــ حلول الروح القدس ــ كرازة التلاميذ... الخ).
+ وكذلك يبرز لنا الطقس حياة القديسين لنحتفل بهم ونتمثل بإيمانهم.
وبالإجمال...
فإن ليتورﭽية الكنيسة هي مدرسة رائعة تعلمنا كيف نتمسك بإيماننا وعقيدتنا، وكيف نحولها إلى عبادة وصلاة، وصلة دائمة بالله الحي، والحاضر دائمًا في كنيسته المقدسة خلال هذه الصلوات الليتورﭽية المقدسة.