المُضطّهِد الأصولي النزعة
يكتب الدكتور مراد وهبه: “إنّ الأصوليّة أيًّا كانت سمتها الدينيّة.. تمزج المطلق بالنسبي والحقيقة الأبديّة بالحقيقة العابرة، وبذلك تدافع عن حقيقة لاهوتيّة ماضويّة، وكأنّها رسالة أبديّة موجّهة ضدّ حقيقة لاهوتيّة راهنة، فتعجز عن التعامل مع الوضع الراهن، ليس لأنّها مجاوزة لهذا الوضع ولكن لأنّها تتحدّث عن وضع ماضوي فتمنح مصداقيّة أبديّة لرؤية نسبيّة. وفي هذا السياق تصبح الأصوليّة مُمهِّدة لما أسمّيه: صراع المطلقات.. إنّ الحوار يفترض التسامح، أي يفترض مشروعيّة الرأي المخالف. فإذا ارتقى الرأي والرأي المخالف إلى مستوى المطلق، تحوّل الحوار إلى نقيضه، أي إلى صراع، لأنّ المطلق بحكم طبيعته لا يقبل التعدديّة.”(1)
لقد حلَّل القديس بولس حالته قبل التحوُّل للمسيح قائلاً:
«أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ وَلَكِنْ رَبَيْتُ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ مُؤَدَّباً عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ النَّامُوسِ الأَبَوِيِّ. وَكُنْتُ غَيُوراً لِلَّهِ كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ الْيَوْمَ» (أع22: 3).
«أنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ ايمَانٍ» (1تي1: 13).
«فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ ὐπερβολή (فوق القياس beyond measure) وَأُتْلِفُهَا(2) ἐπόρθουν. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي» (غلا1: 13-14).
إنّ “مفتريًّا” (1تي1: 13) جاءت في اليونانيّة ὑβριστήν والتي تعني العنيف المتغطرس؛ فالمُضطهِد شخصٌ تحركه ثلاثة عوامل، هي: الفهم الخاطئ، العنف الكامن غير المُهذَّب، الكبرياء. هي سلسلة متشابكة. فالفهم الخاطئ القائم على التمييز الإنساني إلى أعداء وأتباع حسب المعتقد يولِّد كبرياء قَبَلي/ عرقي/ ديني، يفرَّغ من خلال العنف اللَّفظي أو البدني. فشاول، بجهلٍ، تلقَّى تعليمه بالأفضليّة اليهوديّة عرقيًّا وأنّ الأمم كلابٌ وأنجاسٌ، ومن ثمّ يكون المتحوِّل عن ديانة الآباء من اليهود على قائمة الشيطان نفسه!! التي يجب أن يُطهِّر الأرض منها ليعيد المجد إلى شعب إسرائيل. هنا يَظْهر بُعدٌ هام في التعليم الخاطئ وهو الاستدلال بالتاريخ والتقوقع في التاريخ مع إخلائه من سياقه ليبقى أحداثُا متناثرة تخدم فكر أصولي مُدعَّم بنصوصٍ انتقائيّة لتأمين النفس ضدّ الضمير. وهنا يلعب القادة الأصوليين على حسّ النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) nostalgia الكامن في النفس الإنسانيّة والمتولِّد من كثرة الحديث عن أمجاد الماضي الغرّاء ولوائه المرفرف بعزِّة على تلِّة التاريخ!!!
لقد كتب أديب مصلح في هذا السياق قائلاً: “من يحبّ الله حقًّا ويعبده، في الحقّ، يتّصف بالرقّة والوداعة. ولكن مَنْ يحبّ نفسه، تحت غطاء الدين، هو دائمًا حادٌّ وعنيفٌ.. معظم أعضاء الطبقة الدينيّة الحاكمة من صدّوقيّين وفرّيسيّين، كانوا قد شوّهوا الشريعة تشويهًا أعماهم، وانحطّ بهم إلى دركٍ سحيق، وأغلق دون الحقيقة نفوسهم، وأفعمها، حيال يسوع، بغضًا عنيدًا وعنفًا شرسًا. لقد صبّوا على يسوع اتهاماتهم، لا استنادًا على الشريعة نفسها، بل على تفسيرهم لها تفسيرًا مغرقًا في التفاهة والحمق، وقد تشبّثوا بتفسيرهم، وأعرضوا عن جوهر الشريعة وروحها. خضعوا لصغارات أفكارهم ونبذوا كلام الله”.(3)
إنّ المُضطّهِد الأصولي (مَنْ يُخطِّط) كثيرًا ما يكون ممّن يمكن أن نسمّيهم “المتفوّقين” في النصوص الدينيّة؛ «وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي». إنّه يجد ذاته في ذاك المضمار إذ يركض ولا يجد من يباريه في القدرة على التحليل والتأويل والاستيعاب لما يتلقّنه تحت المظلّة الظلاميّة التقليدّية التي صنعها بشرٍ لم يتمرّسوا على حياة التقوى ولم يُقدّروا قيمة الإنسانيّة وأهميّة التعددّية في المجتمع. التقليد الذي تربّى عليه شاول بل وبرع فيه على يدّ غمالائيل، كان تفسير وتأويل النصوص الكتابيّة حرفيًّا وسن شرائع وقوانين وعقوبات من خلال ذلك التأويل الوضعي. لذا نجد أنّ النصّ المعني بدفع الإنسان باطنيًّا ومن ثمّ خارجيًّا إلى الله، تحوّل إلى قوانين تنظيميّة خارجيّة ردعيّة للحفاظ على بنية مجتمعيّة ذات صبغة دينيّة!!! من تلك النقطة يبدأ التداخل بين سلطة النصّ على قلب الإنسان داخليًّا، وسلطة القانون الوضعي على بدنه خارجيًّا، وتتحوّل الدولة إلى مؤسّسة ذات مرجعيّة دينيّة بطلب المجتمع عينه لأنّه لا يدري مدار النصّ الكتابي، ومدار القانون الوضعي، وهنا يختار المجتمع (بجهلٍ) القانون ذو الصبغة الدينيّة إذ يرى أنّه السبيل الأوحد إلى إرضاء الله!!!
لقد «صَنَعَ بَعْضُ الْيَهُودِ اتِّفَاقاً وَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَقْتُلُوا بُولُسَ» (أع 23: 12). كانوا يظنون أنّهم بذلك «يُقدّمون خدمة لله»، بحسب كلمات المسيح. كان ذلك الاتّفاق تحت مظلّة الغيرة الدينيّة فكان مريحًا للضمير. إنّ أيّة ديانة عنفيّة هي انحراف عن مفهوم الديانة عينه. إلاّ أنّ العنف المستتر في الدين أسهل لأنّه يُخدِّر الضمير الإنساني ضدّ أيّة ممارسات لاإنسانيّة لإيذاء الآخر. لذا كان المسيح، ومنه تلقَّى إستفانوس الشهيد الخيط ومن بعده القديس بولس ومن بعدهم الكنيسة، يُحاول شرح الإيمان كاكتمال للمسيرة الإيمانيّة لشعب الله. كان يستدلّ بحياة الشعب العبراني عينه ليؤكِّد أنّ الإيمان به مُخلِّصًا هو لحظة كامنة مستترة في قلب النبوّة وفي سياق الدفع الإلهي لشعبه في العهد القديم. لقد جاهد كلّ الآباء بدءًا بالرسل أن يشرحوا الإيمان كانفتاح على الآخر وإن كان أمميًّا وحبّ للآخر وإن كان عدوًّا إلاّ أنّ قوى الانغلاق كانت تقوِّض كلّ دعاوى الانفتاح الإيماني وتلقي بها في مستنقع الأصوليّة الدينيّة والتمايز العرقي لإرضاء كبرياء ذاتي أو للبقاء في حلم مجتمعي يرسِّخ من نفوذهم ومصالحهم وأعمالهم في تلك البلاد.
إنّ الإشكاليّة اليهوديّة أنّها تحوّلت إلى ديانة دوجماطيقيّة (قائمة على نصّ مدوّن هو عينه العقيدة)، أي تستند إلى عقائد مكتوبة دون الإيمان بنسبيّة العقيدة المُصاغة في لغة البشر، ومرحليّتها، وبالأخصّ أنّ الإيمان اليهودي قائم بالأساس على انتظار المسيّا، أي أنّه إيمان يترقّب المستقبل للاكتمال. ولكنّها تحوّلت إلى قوقعة صلبة ترفض مياه جدّة الحياة، وإن كانت كلمات المسيّا عينه، مَنْ ينتظرونه. قد يكون ذلك لأنّ الإسخاطولوجيّة (الأخرويّة) اليهوديّة تتوقّف بامتلاك الأرض وعودة شعب الله لحلم كنعان الموعودة. إذًا فهي إسخاطولوجيّة زمنيّة فقط!!!
الإيمان المسيحي، في المقابل -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- قائم على شخص المسيح؛ الله الكلمة، ومنه يستمد المسيحي، كلّ يوم تحديدًا جديدًا عمليًّا اختباريًّا لمفهوم الإيمان (وليس العقيدة الثابتة على مرّ الأجيال) وتطبيقه، والنصّ المسيحي المُكوِّن للدوجما أشبه بحدود الطريق وضفّتي النهر لئلا تنحرف المسيرة وتتبعثر المياه. لذا فالإيمان المسيحي هو إيمان منفتح لأنّه يقف مترقّب الإعلان الإلهي اليومي. إنّ الإسخاطولوجيّة في إيماننا المسيحي منفتحة بانفتاح الأبد لأنّها قائمة على الاتّحاد بالله الأبدي. بل ويمكن القول أنّها إسخاطولوجيّة ديناميّة لا تتوقّف عند أيّة مرحلة زمنيّة، مهما كانت زاخرة بتحقُّق الوعود لأنّ الوعد الإلهي هو الملكوت اللاّزمني.
إنّ الديانة القائمة على الدوجما تتوهّم امتلاكها الحقّ كاملاً، في نصّ الدوجما، ومن ثمّ فإنّ أي تأويل نصّي مرفوض لأنّه يخرج عن سياق الحقّ عينه!!! وهنا تبرز إشكاليّة استنفاذ الحقّ؛ فالحقّ المُحدّد بكلمات وقوانين يبقَى حقًّا عقيمًا لأنّه لا يمكنه التُجدّد مع تحديّات العصر. لذا فإنّ امتلاك الحقّ يعني أنّه لم يكن يومًا حقًّا لأنّه صار أسير عقلٍ وحرفٍ وقانونٍ.. صار سجين لُّغةٍ وأرضٍ وزمانٍ!!!
لذا لم يكتب المسيح دوجما بالمفهوم الحرفي. بل قاوم الحرف لحساب الروح. جاء مُخلِّصًا، وأعلن حبًّا، وأشار للملكوت، ورسم خريطته بالفضائل. كلّ مَنْ قبله بالموت والقيامة (المعموديّة) دخل دائرة الحقّ لأنّه صار عضوًا في جسد الحقّ، إذ قال الربّ يسوع: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو14: 6). ومَنْ دخل دائرة الحقّ يتلقّن كلّ يوم الحقّ، خبرةً ووعيًا وتلامسًا، والحقّ لا يُستنْفَذ، إذ أنّه مطلق لأنّه الله عينه. إنّه أشبه بمياه يمكنها أن تأخذ شكل أيّة آنية وتتلوّن بأي لونٍ دون أن تتغيّر خصائصها، وبالرغم من ذلك فإنّ ظاهرها تغيّر بتغيُّر الإناء واللُّون. هكذا الحقّ يمكنه أن ينسكب في أي زمنٍ وبأيّة لُّغة وتحت أيّة مظلّة ثقافيّة.. هو هو الحقّ عينه دونما تغيير. هذا هو نمط المسيح في إعلان الحقّ وهذا هو جوهره الذي طالما نادى به بل وبكّت مَن تقيَّدوا بقيود قشوره دون لبابه.
الديانة القائمة على الدوجما تبحث عن حكم ثيوقراطي، تريد أن تُملِّك الدوجما على البشر على اختلاف تنوّعهم الإنساني والثقافي والزماني، تختزل التاريخ في نصوصٍ تمسحها ملكة على رقاب البشر!!! من هنا نفهم الأيدلوجيّة الصهيونيّة المعاصرة التي تتّخذ شعارًا لها: “كمال اليهود ووحدتهم من كمال أرض إسرائيل”. والأرض تعني الحُكم بالشريعة المنغلقة والموّجهة بتفسيرات عنصريّة خطّها الرابيون عبر العصور تحت وطأة حلمهم بالعودة ونوال الميراث المفقود في كنعان.
بينما المسيحيّة لا تريد حُكْمًا ولا تسعى إليه؛ إذ قال المسيح صراحة: «مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» (لو12: 14). وفي سياق آخر، قال: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ» (لو20: 25). ويضيف القديس لوقا أنّ مَنْ سمع هذا الكلام تعجّب منه؛ فمَنْ ذا الذي لا يطمح في مقارعة قيصر على سلطان الزمن؟؟ فقط المسيح وبنيه..
لا يجتمع يسوع مع قيصر تحت قبّة واحدة، إذ أوضح أنّ عمله هو غربلة قلوب البشر من زوان الخطيئة وإعدادها لقبول ملكوت الله، في سياق واقعهم الإنساني. فالمسيحي لا يُغيِّر العالم بالسلطة بل بالصلاة. أيُّ انحراف عن الباطن ومحاولة لدمج المسيح مع قيصر لا يُعبِّر عن المسيحيّة على الإطلاق بل وضدّ مسيرة الإنجيل.
من هنا نفهم أنّ الشهادة هي في صميم واقعنا المسيحي وقناعتنا الإنجيليّة وتاريخنا الممتدّ. لأنّ المسيحي هو شخص لاثوري بمنطق السيف والحركات العُنْفيّة الدمويّة. ثورته يطلقها من مخدع الصلاة ونقاوة الحياة وإعلان الحقّ دون إراقة دماء. المسيحي يُسطِّر كلمات الحقّ بألمه لا بإيلام الآخرين، لذا فالحقّ المسيحي فعّال ومثمر لحياة أفضل.
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(1) الأصوليّة والعلمانيّة، الدكتور مراد وهبه، دار الثقافة، 1995، ص4
(2) تلك الكلمة وردت عند هوميروس كمصطلح حربي بمعني “تدمير وتخريب المدن”.
Burton, Ernest De Witt. A Critical and Exegetical Commentary on the Epistle to the Galatians. New York: C. Scribner’s sons, 1920; 45
(3) أديب مصلح، يسوع في حياته، الجزء الأول (منشورات المكتبة البولسيّة: 2006)، 443