لماذا الخطيئة؟
إنه سؤال حائر يتردَّد صداه في قلوب متألمة تشتهي وتشتاق أن
تتذوَّق حياة البرّ، بينما يَنْشَب ماردُ الإثم أظافره في كيانها الإنساني الرقيق.
سؤال تطرحه النفس في دهشةٍ، حينما ترَى الإرادة حاضرة والشوق جارف والرغبة عارمة
في اقتفاء آثار الرب، بينما تُبصِر السقوط والانهزام في واقعها اليومي، وترى طيور
الحزن مُحلِّقة على فردوس القلب المفقود والنقاوة التائهة في الصراع الدائر بين
البرّ والإثم.
ويشتد إلحاح هذا التساؤل، حينما تجد نفسك تسير خطوة على درب
النور، وتنفتح بصيرتك في لحظات الصلاة الصادقة على الأبديَّة. وتُعاين في نشوةٍ،
الفرح ومجد الحياة المُسْتَتِرة في المسيح؛ ولكنك تصطدم فجأة بحجر عثرة يعترض
مسيرتك؛ حجر ألقته يدٌ آثمةٌ على الطريق!! وترى فخًّا مخفيًّا تحت أعشاب النوايا
الحسنة والغايات الطيِّبة، فتسقط فيه، وتجد أنه يَهْوَى بك إلى سردابٍ ضيقٍ
ومظلمٍ، حيث روح الظلمة يَرِفُّ على عتبته الرطبة الباردة؛ إنه سرداب الخطيئة الذي
ينتهي بهاوية الموت!!
وتجد أصوات المحيطين تدعوك لأن تقرأ الكلمة الإلهيَّة،
حينما يستولي عليك جوعٌ ونهمٌ للحياة الجديدة، فتُبْصِر بريقًا أخـَّاذًا يَشِع من
بين السطور والحروف والكلمات، وفيما تبدأ حبّات الحياة في تكوين أولى براعم
الإنسان الجديد، حسب منطق ملكوت الله غير المادي، داخل قلبك، تجد شوكًا يخرج في
غفلة النفس عن الوصيَّة، يلتقط براعم الحياة الجديدة، يخنقها وهي بعد صغيرة، قبل
أن تشُقّ طريقها نحو النور!!
فإذ بك تُسْرِع لتُلقي بذاتك في مَخْدَع الصلاة، فهناك يدا
المُخلِّص مبسوطة على الدوام. فتَسْكُب دموعك بل طِيبَك، وإذ بالفرح والراحة
يأتيان ليستقرا بين جدران قلبك، وكأنك خلعت ثوب الأرض، وتسلَّقتَ جبل تابور، حيث
ضياء المجد يَغْمُر الحضور، وأسرار الملكوت مُنْكشفةٌ أمام بصيرة الروح.
وحينما تخرج من مَخْدَع الصلاة، تجد لسان حالك يرجو
المُخلِّص بكلمات بطرس على جبل التجلي، قائلاً: « يارب جيد أن نكون ههنا » (مت17:
4)؛ فههنا النور والبهجة والنُصرة والمجد والقوَّة، وههنا الرجاء يتجسَّد واقعًا
بحضور الله. ولكن الأرض والزمن والجسد يأبون أن تُحلِّق الروح بعيدًا عن سلطان
المادة، فتنزل مُرغمةً من على جبل المجد المُستعْلَن في الصلاة، لتصطدم بحياةٍ
منسوجةٍ بخيوطٍ عبثيَّةٍ؛ فالشهوة والسلطة واللذَّة والمال معجونون بتراب الأرض،
يُشكِّلون ماردًا يطأ بقسوة إبليسيَّة كلّ روحٍ سابحةٍ في بحار الرجاء غير
المنظور. كلّ روحٍ رافعةٌ شِراع وشريعة المحبّة في وجه الحياة.
تذهب إلى الكنيسة، حيث جَمْعُ الرب مُتَّحِد معًا، فترفع
صلواتك لتمزجها مع صلوات جسد المسيح التي يُصعِدها الروح الحاضر في الكنيسة إلى
الآب، فيُبَارِك الآب على الجماعة المُصلِّيَّة، ويهبها عربون الحياة الجديدة؛ جسد
يسوع ودمه. فتتقوَّى النفس وتستشعر وكأنها قد احتوتْ الملكوت!! وأن الخطيئة لن
تستطيع أن تتربَّص بها من جديد، وأن الشيطان سيُعْلِن هزيمته أمام مجد الخلاص الذي
استقرّ في قلوب مَنْ نالوا سِرّ الحياة المُقدَّم في الإفخارستيا.
ولكنك بعد قليل تجد شهوات الجسد تثور من جديد، ومُغريات
الحياة تُعاود إلحاحها، ومطالب الأرض تبدأ مرّة أخرى في نسج ثوبٍ من تراب، لتجعل
منه شرنقة تحجز فيها روحك الوثــَّابة نحو الله، لتحرمها من انطلاقها نحو الرب،
محبوب النفس وجلَّ مشتهاها.