المرجو الانتظار قليلا سوف يتم التوجيه الى المدونة الجديدة وشكرا المرجو الانتظار قليلا سوف يتم التوجيه الى المدونة الجديدة وشكرا

الأحد، 22 مايو 2016

ثنائية الحياة كتاب نحو التوبة الراهب سارفيم البراموسى



ثنائية الحياة

ووسط كلّ هذا التناقض الذي يحيط بالنفس، تتسائل: أما من حَلٍّ للخطيئة؟ أما من انكسار نهائي لإبليس وأعوانه؟ أما من نورٍ أبدي يُبرِق، ليصير هو سِمة الحياة التي لا تَقبل الظلمة؟؟

وفي وسط حيرتك وترقُّبك إجابة لتساؤلاتك، تجد صوتًا خافتًا هادئًا يتردَّد صداه في أعماقك القصيَّة، صوتًا يقول لك: « إن مُدَّة كلّ أيام الأرض، زرع وحصاد، برد وحر، صيف وشتاء، نهار وليل، لا تزال ». فإذ بك تنتبه أن تلك الكلمات ليست سوى الكلمات التي وردت بفم الرب في سفر التكوين (8: 22). إنها الكلمات التي خَتَمَ بها الرب على قصة الطوفان بعد أن قرَّر أن يحتمل تغرُّب الإنسان عنه في الشَرِّ، وأنه لن يعود يفنيه، لأن نسيجَ الشَرِّ قد توغَّل في كيان الإنسان يوم سقط. وأصبح الإنسان يحيا بين قطبي النور والظلمة. وصارت الحياة كلها ثنائيات تتجاذب البشريَّة؛ ثنائيات ما بين:

السقوط والقيام،

الابتعاد والاقتراب،

الانكسار والانتصار،

الحزن والفرح،

الضيق والسعة،

الأنين والبهجة،

الموت والحياة،

الجسد والروح،

الأنا والآخر،

الفرديَّة والشخصانيَّة،

الكينونة والتملُّك،

المحدود والمُطلَق،

العدم والوجود،

الزمن والأبديَّة.

إنها الحياة النسبيَّة التي نحياها، التي هي مزيجٌ من متناقضاتٍ. فالتراب يجاور الروح في الكائن البشري. إنها واقعيَّة الحياة التي يُريدنا الروح القدس أن نعيها ونتعلَّمها. فالحياة ليست أُحاديَّة الجانب؛ فهي ليست ماديَّة مُتكثــِّفة فقط، كما أنها ليست روحيَّة بسيطة فقط أيضًا. إنها مجموعة من الثنائيات. وما يُشكِّل توجُّهنا الإنساني في مسيرتنا بين ثنائيات الوجود هو ميلنا صوب أحد طرفـي الحياة، وصراعنا للتحرُّر من الطرف الآخر.

لذا يجب أن ننتبه إلى أنه بعد السقوط الذي أفسد الطبيعة كلها، دخلت الخطيَّة إلى صميم المادة المخلوقة. لذا فإن وهم النقاوة البِلُّوريَّة التي لا تشوبها شائبة هو حلمٌ بعيد المنال طالما أننا أسرى الزمن والتراب. كما أن الله لا يطالبنا بالنتائج ولكنه يطالبنا بالحركة والدفاع عن ثوب الخلاص.

فالنقاوة التي يجب أن نسعَى إليها هي وليدة صراع مستمر، آني، متواصل. وهذا الصراع هو الذي يستقطِب هبات الروح المجانيَّة لنا، خاتِمًا إياها بالنقاوة والطُهر. لكن يبقَى هبوب نسيم الروح على أعتاب قلوبنا مرهونًا بيقظتنا وصراخنا ورجاؤنا في نوال المعونة والخلاص، ويبقَى نداؤنا الذي ينطلق، ليل نهار، من صميم قلوبنا المترقِّبة شعاعًا من نور، ومن وسط غيمات شتاء الخطيئة القارس، هو: [ هلمّ تفضَّل، حِل فينا، وطهِّرنا من كلّ دنسٍ ] (من قِطَع الساعة الثالثة / صلوات السواعي). الروح هو مُطهِّرنا من الدنس والخطيئة وليس جهادنا. ألاَّ نُطفِئ الروح داخلنا يبقَى هو غاية كلّ جهادٍ ضدّ أعداء النور. إذًا مطلب الله منَّا ليس هو التخلُّص من الخطيئة ولكنه الصراع ضدّ الخطيئة، بينما التخلُّص من الخطيئة هو الثمرة التي يقتطفها لنا الروح من شجرة الحياة التي لا يموت آكلوها.

من هنا يمكننا أن نعرف أن سِرّ انكسار الخطيئة يكمن في يقظتنا إِبَّان الصراع على الدوام ودئبنا على التخلُّص من كلّ خطيئة عَلِقَت بثوبنا النقي الذي لبسناه يوم معموديتنا. فلا نقاوة بدون صراع مع الظلمة، وذلك لأن نقاوتنا مُهدَّدة على الدوام من أعداءٍ لا ينامون ولا يهدأون ولا يضجرون من كثرة الهزائم.

ثنائية التوبة

إن التوبة ذاتها هي إحدَى ثنائيات الحياة. فهي تعبير عن الميل والصراع في آنٍ واحد. إنها ميلٌ لمشورة الروح بالعودة إلى الله، كما أنها ـ في ذات الوقت ـ صراعٌ ضدّ خيوط الشيطان التي تريد أن تُعرْقِل تلك الحركة نحو الله. إنها تُمثــِّل ثنائيَّة داخليَّة في قلب الإنسان؛ فالاقتراب من مدار النور الإلهي هو في نفس الوقت إظهار مُؤلم لحالة النفس المُتدنِّسة بالخطايا والتعدّيات، تلك التي لَحِقَت بها من جرّاء الخضوع للعالم وقانونه المادي. فالنور وحده هو المُخبِّر عن الظلمة. وهذا ما يجعلنا في حالة نِزاع دائم بين رجاء الاقتراب ورهبة الاقتراب، شوق اللقاء وخَشيْة اللقاء!!

وعن ذلك النزاع الذي تجوزه النفس حينما يَبرُق نور الله في أُفـُقِ الروح، يُحدِّثنا صفروني سخاروف (الراهب الروسي) في كتابه (معاينة الله كما هو)، قائلاً:

… يُصبـِـح الإنسـان مُمَزَّقــًا؛

من جهــةٍ، هو غـارق في هلعـه

من رؤيـة ذاتـه على ما هي عليـه من قباحـات،

ومن جهــةٍ أخرى، فهو يشعـر بفيـض قـوَّةٍ لم يعرفهـا من قبـل،

ناجمــة عن رؤيــة الإلـه الحـيّ …

كما يكتب كاليستوس وير في كتابه (الملكوت الداخلي)، قائلاً:

التوبــة المُفعمــة ألمــًا وفرحــًا في آنٍ معــًا

تُعبــِّر عن التوتُّـر الخـلاَّق

الذي طالما طبـع الحيـاة المسيحيــَّة على هذه الأرض.

إنَّ تلك الثنائيَّة الضروريَّة التي تُشكِّل توبتنا هي بالفعل توتُّر خلاَّق، لأنه من بين ألم رؤية النفس على حقيقتها، يَبْرُق النور الإلهي عليها، فتذوب في نشوة التلاقي مع الله، مُتناسيَّةً ذاتها وحالتها وحقيقتها. تلك هي أولى خطوات مغادرة الذات باتجاه الله، وهو ما يضمن النجاة من فِخاخ اليأس المُتربِّصة بالخاطِئ حينما يُعْلِن عودته لأحضان الله الأبويَّة من جديد.

إن مشاعر التوبة تتأرجح دائمًا ما بين قطبيْن، وهما: 
قُطب النور (الحاضر): وهو يُمثــِّل فرح النفس بعودتها إلى الله. 
قُطب ظلمة الماضي: وهو يُمثــِّل ألم النفس لما سببته لقلب الله من جراح حينما أخطأَت. 

وإن كان قُطب النور في التوبة هو الذي يسبي النفس في نشوة اللقاء فتنسَى حقيقتها في غمار دفء وحنو الله، إلاّ إنَّ قُطب ظلمة النفس الماضيَّة هو ضمانها حتّى لا تستعلي حينما يراودها هاجس التفوُّق الروحي والتميُّز الحياتي عن الآخرين. فالنور الإلهي الحاضر يُحصِّن النفس ضدّ اليأس، كما أن ظلمة الماضي الذاتيَّة تحمي النفس من الاستعلاء الروحي والكبرياء الذهني.

إنه نفس مفهوم الحبّ/ الخوف (الرهبة) الذي به نلتقي الله. إنْ تلاشَى الخوف، ارتخت إرادتنا في تطبيق الإنجيل وفي الصمود أمام الخطيئة، وإن تقلَّص الحبّ تحوَّلت مسيحيتنا إلى وثنيَّة جديدة ولكن بمفهوم سلوكي أكثر رُقيًّا. وذلك لأن جوهر الله هو المحبّة، وإن اختفت المحبّة تحوَّلنا إلى عبادة إله آخر أبعد ما يكون عن الثالوث الحبّ.

ويرى القديس أغسطينوس أن ثنائيَّة التوبة الداخليَّة ما هي إلاّ حبّ الله وبُغض الذات بآنٍ واحد، لذا يقول مُصَليـًّا (الاعترافات/ الجزء الثاني):

آه ! ما أحسـن الاعـتراف بين يديـك،

لأني عندما أُقـر لـك بخطايـاي،

تُرســِل إليَّ رأفاتـك، شعـاع نـورك،

فأرتـد خجـِـلاً من نفسـي،

وأرانـي مُستحقـًّا البُغـض،

وأراك مُستحقــًّا الحبّ،

وفيك يجـب أن أضـع أفكـاري وعواطـفي وملذَّاتي.

من هنا كانت الثنائيَّة المُكوِّنة لرداء التوبة هي ضرورة بما تحمله من بهجةٍ وما تحمله من ألمٍ لذا فهي توبة مُفعَمة ألمًا وفرحًا بحسب توصيف كاليستوس.

ولكن هل هذا يعني أنه يجب علينا قبول حقيقة وجود الخطيئة في حياتنا؟! بالطبع لا. ولكن يجب أن نُدْرِك مدار الصراع الذي نجتازه بشكلٍ لحظيٍّ، وأيضًا طبيعة الأعداء المُتَربِّصين بنا، وكذلك طبيعة الصراع نفسه، بل وطبيعة ذواتنا نحن أيضًا، حتّى يمكننا القيام بعد الانطراح والصمود بعد السقوط والانتصار بعد الانكسار. يجب أن نُدْرِك أن الخطيئة تُحاصِر وجودنا الترابي بجُملته، تتسلَّق جدران القلب لتجد منفذًا للدخول والإنبات، تتلمَّس لحظات فتورٍ أو مللٍ أو تراخٍ أو حيرةٍ أو ضعفٍ لتَدْخُل وتُقيِّد النفس والروح معًا بقيود بها رائحة الجحيم والموت. والإنسان مائل للشَرِّ منذ حداثته كما أعلن الكتاب، لذا فإن الخطيئة لم ينج منها شخصًا على مرِّ العصور!!

يبقى أن نُؤكِّد مُجَدَّدًا أن ما يطلبه الله منَّا هو العمل وليس النتيجة، الجهاد وليس الخلاص.

لقد تحدَّث القديس بولس أيضًا عن نزاع ثنائي داخلي؛ إنه النزاع بين الإرادة والفعل، بين الاشتياق القلبي والجمود الحياتي. وهو ما نجده حينما نُطالع رسالته إلى أهل رومية، التي يُدوِّن فيها أنينه بلسان كلّ البشريَّة المرتديَّة لِباسًا من لحمٍ ودمٍ، قائلاً: « لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحُسنَى، فلستُ أجد » (رو7: 18).

إن هذا الصراع بين الإرادة المُترجيَّة أبديَّة النور ولِباس الفضيلة، من جهةٍ، وبين العمل المُلوَّث بالتعدي والخطيئة، من جهةٍ أخرى، هو بالفعل مِحْوَر الجهاد الإنساني. إن النُصرة تَكْمُنُ في الجهاد، والنعمة دورها أن تُتوِّج هذا الجهاد بالنقاوة والتحرُّر من الخطيئة. لذا فإن الانفلات من حبائل الهاوية هو نتيجة شراكة بين جهادك المُستمِر، وبين النعمة التي تُعِين وتُكافِئ. لذا لا تجعل من الضعف والسقوط مُثبِّطًا لعزيمتك، يجب ألاّ تتوقَّف عن الصراخ إلى الله من أجل الحصول على نعمة التحرُّر، وطالما قلبك يصرخ طالما أنت مُنتصِر. فقط الهزيمة في توقُّفك عن الصُراخ والجهاد، والرجاء في النُصرة.

ولعلّ هذا المفهوم نجده بوضوح في الصلاة التي يتلوها الكاهن قبل التقدُّم للخدمة الليتورجيَّة الخاصة بالإفخارستيا، إذ يقول (صلاة الاستعداد / قُدَّاس القديس باسيليوس):

أيهـا الرب العـارف قلـب كلّ أحـدٍ،

القدوس المُستريـح في قديسيـه،

الذي بلا خطيــَّة وحـده، القـادر على مغفـرة الخطايـا،

أنت يا سيد تَعْلَـمُ أني غير مُستحـق ولا مُستعـد ولا مُستوجـب لهذه الخدمـة المُقدَّسـة التي لك،

وليس لي وجـه أن أقـترب وأفتـح فاي أمـام مجـدك المـُقدَّس،

بل ككثرة رأفاتـك اغفـر لي أنا الخاطِئ …

إن تلك الصلاة الممتلئة بالانسحاق الشديد أمام المجد الأقدس، هي بالفعل لسان حال كلّ التائبين الذين لم يَصِلوا إلى التحرُّر الكامل من الخطيئة، ولكن صرختهم الدائمة والمُسْتَمِرة هي: [ ككثرة رأفاتك اغفر لي أنا الخاطِئ ]. وتلك الصرخة وحدها تحمل على جناحيها سِرّ نُصرة الخاطِئ، على الذات، التي تريد أن تتبرَّر، وعلى الشيطان، الذي يريد أن يَخْدَع النفس ببرِّها تارةً، وبعدم جدوى الوقوف أمام الله تارةً أخرى. إنها الصلاة التي تُهيِّئ الإنسان للوقوف أمام الله، إذ أنها تكسوه بثوبٍ منسوج برقة وعذوبة الاتضاع.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن الثنائيات التي تُلاحقنا كلّ يومٍ وكلّ ساعةٍ بل وكلّ لحظةٍ في حياتنا، هي السبب الرئيسي والمُباشر لنمونا ونضوجنا. فلولا الأسود لما كان الأبيض رمزًا للطُهر والنقاء، ولولا الظلمة لما كان ابتهاج الطبيعة بيقظة النور، ولولا القتال والصراع لما احتفل البشر بالانتصار. فالتتويج لن يأتي إلاّ عقب القتال. كما أن الطَعْم الحقيقي للنُصرة يَكْمُن في لذَّة الجَهد المبذول أثناء الصراع. إنه التعليم الذي كان يحرص القديس موسَى الأسود أن يُلَقِّنه لكلّ مَنْ كان يأتي إليه شاكيًا ضراوة القتال، إذ اعتاد أن يقول:

لو لم تــكن حـروب وقتــال،

ما كــانت فضيلــة

فالفضيلة إذًا هي نِتاج الصراع المُحْتَدِم بين قطبي المادة والروح، حينما يميل الإنسان بالروح، ليسمو عن جذب المادة المُستمر والدائم. كما أن الإكليل الختامي لن يستقر على رؤوسٍ لم تكتسِ بالعرق والجهد في سعيها اليومي. وكذلك الغلبة لن تكون إلاّ لمن استطاعوا أن يقولوا [ لا ] للعالم الحاضر الموضوع في الشرير.

إن هذا الصراع بين المادة والروح هو في حقيقته صراع تجري أحداثه في العالم الإنساني الصغير microcosmos، داخل الكيان البشري، بين خواطر إبليسيَّة تتسلَّل، في ظلمة الضمير، لتجذِب الإنسان تجاه الهاوية، ولتتجسَّد في شكل خطيئة، وبين نفحات الروح القدس التي تبغي إشعال القلب الذي قاربت فتيلته على الانطفاء، ليُبْصِر من جديد نور الحياة. وهذا الصراع في عقل وقلب الإنسان يجعله في حالة نزاع دائم، بين قوَّة هائلة تجتذبه لمن هو غير منظور، بحواس الجسد، ولكنه مرئي ببصيرة الروح النقيَّة، وبين قوى أخرى تستخدم الحواس لتستميله نحوها.

وهذا النزاع الإنساني لا يتوقَّف، ولكن الإنسان، بمضي الزمن، يصبح أكثر تبصُّرًا بالحقيقة، وأكثر إدراكًا للخدعة التي تقبع خلف الغريزة المُتسربِلة بثوب اللذَّة، وذلك حينما ينمو وعيه الإيماني من خلال خبرات يوميَّة متلاحقة. وبقدر ما يميل الإنسان صوب النور بقدر ما تضعف همسات الظلمة التي تجتذبه. وبقدر ما يرتضي ـ في المقابل ـ بوجود قشور الخديعة الشيطانيَّة على ناظريه، تشتدّ حبائل الظلمة حول عنقه، فيختنق، ويصبح أسير حالةً من انعدام المعنَى والقيمة والغاية، ويصبح أقرب للهاوية منه للملكوت.

يكتب لنا باولو كويلهو Paulo Coelho (الروائي البرازيلي) في روايته (محارب النور) عن تلك القوتيْن اللتيْن تجتذبان النفس، قائلاً:

يعـرف محـارب النـور أنَّ المـلاك والشيـطان

يتنافسـان على مـقبض سيفـه،

يقـول الشيـطان : « ستضعـف .. لن تعـرف متى؟ أنت خائف »

ويقـول المـلاك : « ستضعـف .. لن تعـرف متى؟ أنت خائف »

المحـارب مندهـش؛ فالمـلاك والشيطـان تفوهـا بـكلامٍ واحد!!

عندهـا يتابع الشيطـان: « دعني أساعـدك … »

ويقول المـلاك: « سأساعـدك »

في هذه اللحظـة، يفهـم المحـارب الفـرق.

فـقد تـكون الكلمـات واحـدة، ولكن الحليفـين مختلفـين.

فيختـار حينئذٍ يـد المـلاك.

إن نصرتنا مَرْهونة ـ أولاً وقبل كلّ شيءٍ ـ بوعينا بالصراع وبأطرافه وبوسائل النُصرة وأسباب الهزيمة. فلقد استخدم الشيطان كلمات الروح لخداع المسيح، ولكن وعي المسيح بقصد الروح من تلك الكلمات صار هو سِرّ انكسار الشيطان في تلك الحرب التي اتَّخذت من الجبل مكانًا شاهدًا عليها. والوعي يعني تدريب الحواس وشحذ المهارات الروحيَّة القتاليَّة، بالصلاة وكلمة الله والافخارستيا … ولكن قبل كلّ شيء؛ التسربُل بالتواضع كما بالجسد.

الوعي

إن وعينا بتلك الثنائيات التي تُحيط بنا، يجعلنا أكثر إدراكًا للواقع الذي نحياه، وأكثر تقبُّلاً لاحتمالات التعثــُّر والسقوط. وبقبولنا طبيعتنا البشريَّة المُعرَّضة للخطأ، سنُصبح أكثر قوَّة وقُدرة على النهوض دُفعةً أخرى. فالذي يجعل من الصعب على شخصٍ ما، القيام مرّة أخرى بعد السقوط، هو شعورٌ كاذب بالاستقرار والثبات، والثقة في طبيعة بشريَّة عتيقة قد تثور وتزأر في أيِّ وقت، ممَّا يُشكِّل صدمةً عنيفةً، حينما يجد أن ثباته كان حُلْمًا مرَّ سريعًا، وأن نقاوته قد طالتها أيدي الخطيئة. لذا ينصح القديس بولس قائلاً: « مَنْ يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط » (1كو10: 12).





ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

عندمـا يَسْقُـط المُتكبِّر يندهـش وينـدم ويفقـد الرجـاء،

أما المُتضـع فهـو يعـرف ضعفـه،

ولا يندهـش من تصـرفٍ أو سلـوكٍ،

بل ينـدم برجـاءٍ حيٍّ في رحمـة الله.

لذا فمن الضروري وضع هامش للخطأ والتعثــُّر في الحياة التي نحياها، ممَّا يَهِبنا القُدرة أن نتجاوز لحظات السقوط سريعًا، ونتصرَّف بإيجابيَّة بعد كلّ فشلٍ قد ننحدر فيه أثناء صراعنا اليومي المُحْتَدِم.

إن قبولنا لذواتنا ليس تصالُحًا مع الخطيئة ولكنه وعي بإمكانيَّة السقوط، كبشرٍ، نحيا في خيمة إنسانيَّة. ولكن هذا الوعي لا ينبغي أن ينفصل عن سعي دؤوب لتغيير تلك الحالة بلمسات النعمة. فكثيرًا ما يُجاهد البعض ولكن بثقة في الثبات دون معرفة هشاشة النفس البشريَّة التي تحيط بها حيَّات وأفاعي الخطيئة ليل نهار، وهي تتربَّص بها لتلدغها حينما تسهو وتغفو. كما أننا نجد أن هناك قطاعًا آخر من البشر يدركون طبيعتهم الخاطئة ولا ينهارون أمام قسوة السقوط، ولكنهم في المقابل، لا يعملون على تغيير تلك الحالة!! فيصبح وعيهم استكانةً وتَصالُحًا مع الظلمة.

لذا فمن الضروري أن يمتزج الوعي بالضعف الإنساني مع العمل والسعي للقيام والتوبة والتجدُّد، حتّى تكون التوبة مدفوعة بقوَّة الرجاء الذي يُوفِّر على الخاطِئ جهادًا طويلاً في سعيه للنهوض دُفعةً أخرى.







وفي كلّ مرّة تأتي غيمة السقوط لتُحيط بك، وتُبدِّد شوقك للنقاوة؛ يجب عليك أن تقف وتــُردِّد في داخلك:

إنها الطبيعة البشريَّة الخاطئة التي تعمل فـيَّ للموت،

إنه الجسد الشقي

الذي يُكبِّل روحي الثائرة على العالم المادي،

إنها بقايا لحظات من ذكرى سقوطٍ أليمٍ

قد طال أبويَّ آدم وحواء في الماضي السحيق،

ولكنني …

سأنهض بنعمة الحياة الجديدة

التي أشرقت لي في المسيح يسوع،

سأعاين النور المُتسلِّل من بين صخور الظلمة، 

وإن سِرْتُ في وادٍ يغطيه ظل الموت،

فلن أخاف ولن أرتعب ولن أخور ولن أستسلم؛

فلتجرحني سهام الأعداء كما تشاء

ولكننى لن أترك المعركة وأختبِئ،

فستكون جراحاتي هي الشاهد على جهادي

يوم استعلان مجد المسيح.

الخليقة الجديدة

إننا نسير في الحياة بآنيتنا الفخاريَّة الهشَّة؛ التي هي أجسادنا الترابيَّة وطبيعتنا المحدودة، ولكن تبقَى اشتياقات قلوبنا هي سِرّ صمودنا أمام قسوة الحياة. ولكن الاشتياق يجب أن يصير عملاً، والعمل يجب أن نتوجَّه به لله.

فالمسيحيَّة لم تأتِ لنا بطبيعة خارجيَّة جديدة ــ بدلاً من الجسد المادي ـ لتُقحِمها في كياننا الإنساني، فمدار وجود المسيحي هو نفس المدار الزمني والمكاني الذي تدور فيه باقي الخليقة. فنحن كسائر البشر، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، بحسب الطبيعة الماديَّة؛ « عالمين أن نفس تلك الآلام تُجرَى على إخوتكم الذين في العالم » (1بط 5: 9). ولكن الخليقة الجديدة التي تحدَّث عنها القديس بولس ليست سوى صورة الله المنقوشة في جوهر الكيان الإنساني والمُتطلِّعة إلى وجه المسيح، فقط حينما تتنقَّى تلك الصورة من شوائب الخطيئة بدم العهد الجديد، لتعود نقيَّة بهيَّة كسابق عهدها قبل السقوط، تعكِس الأصل الإلهي المُضِيء الذي صُوِّرَتْ على شاكلته.

إن الخليقة الجديدة في المسيح هي سِرّ انفتاح بصيرة الإنسان، فهي التي تجعله يستطيع أن يُبْصِر القيامة خلف رداء الموت. فحبَّة الحنطة في نظر المسيحي ليست بذرة صغيرة مُهْمَلة ولكنها شجرة كبيرة مُثمِرة!! وهذا هو سِرّ الحياة الجديدة. إنه تجديد البصيرة للحياة لنرى كلّ شيءٍ بأعين الله الساكن فينا. وهكذا نجد أن الألم في حياة المسيحي هو إكليل مجدٍ وشهادة حيَّة، فقط حينما يُخْتَم بخاتم الصبر والرجاء في الرب. وأيضًا نرى السقوط هو دَفْعَةٌ للقيامة بقوَّة أعظم، أو بحسب التعبير الخالد للقديس يوحنا ذهبي الفم؛ هو سِرّ [ العودة بقوَّة أعظم ]. وهكذا الخطيئة في القاموس المسيحي، بالرغم من كلّ قُبْحَها وسلبيتها التي تُلقي بالضوء على الانهزام في حياة الإنسان، نجدها تؤول بالتوبة إلى اختبار!! اختبار نعاين فيه وجه الله الرحوم.

فالخطيئة إذًا، هي التعبير عن البشريَّة الملوَّثة بخبرة معرفة الخير والشر، بالممارسة والعمل والسقوط. ولكنها من جهةٍ أخرى، قد تتحوَّل إلى فرصة ثمينة لنُعاين من خلالها عمل الله وحُبَّه المجاني، وخلاصه الذي لا يتوقَّف على حالتنا الراهنة، ولكنه ينهال علينا بحسب سخاء الرحمة التي في قلب الله من جهتنا، ولكن هذا البُعد نتلمسه في حياتنا فقط حينما نبدأ بالتوبة.

فالخطيئة بدون توبة هي قبول دينونة، ولكنها بالتوبة هي معاينة النعمة والمجانيَّة في كلّ تعاملات الله معنا «وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن، في جسم بشريته، بالموت، ليُحْضِرَكم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه» (كو1: 21 ــ 22).

وعن هذا المفهوم يكتب الأب هنري بولاد في كتابه (السلام الداخلي) قائلاً:

النعمـة تحتـاج إلى نافـذةٍ تمـر منهـا إلى قلـب الإنسـان،

وقد يكـون جـرح الخطيئـة هو تلك النافـذة

التي تسمـح للنعمـة بالنفـاذ إلى أعماقنـا،

حتّى تـروي أنفسنـا التي تُشْبـِه الأرض الجافـة …

ولنا في مَثـَل العشار نموذج لتلك الحالة الفريدة لعمل النعمة؛ فجِراح الخطيئة قد أحْنَت نفس ذلك العشار بالحُزن، فتدفَّق الأنين من قلبه كنهرٍ جارٍ، وتناقل الفضاء صدَى قرعات صدره التي زلزلت السماء، وخرجت تلك الكلمات البسيطة التي فتحت الباب أمام النعمة للعمل والتبرير والغفران.

« وأمـا العشَّـار فوقـف من بعـيد

لا يشـاء أن يرفـع عينيـه نحو السمـاء

بل قـرع على صـدره قائـلاً:

اللـهم ارحـمني أنا الخـاطِئ » (لو18: 13)







إننا في مطالعتنا للعهد الجديد نجد أن الله قد جاء في الجسد من أجل الخطاة والأثمة والساقطين، وليس من أجل الأبرار والكاملين، كما أعلن هو قائلاً: « لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة » (مت 9: 13). من هنا ندرك أن الأبرار في أعين أنفسهم هم أبعد الخلائق عن معاينة وجه الله الرحوم وتذوُّق النعمة المجانيَّة. ولنا في تبكيت الرب للكتبة والفريسيين وقادة الشعب أكبر دليل على خطورة البرّ الذاتي الذي كان موضع انتقاد الرب الدائم والمستمر. فالخاطِئ التائب وحده هو الذي يتذوَّق الرحمة حينما يستعطف صلاح الله لانتشاله من مستنقع الخطيئة. حينما يدرك إنه لا شيء في مواجهة الخطيئة ومواجهة قوات الظلمة، ولسان حاله يقتبس من كلمات القديس أنطونيوس، حينما كان يواجه إبليس وجنوده، فيقول: [ أنا أضعف من أصغركم ]. فالضعف الذي يُعْلِنه القديس أنطونيوس هو ضعف الذات بقدراتها الإنسانيَّة في مواجهة الظلمة، ولكن هذا الضعف يتحوَّل إلى قوَّة نُصرة هائلة حينما تتدخَّل النعمة وتقود النفس في هذا الصِراع، لتصبح المواجهة بين الله والشيطان. حينئذ تَفِلّ كلّ قوات الظلمة من أمام وجه الرب المدافع عن الصارخين إليه ليلاً ونهارًا.

ويُدوِّن لنا القديس أثناسيوس في كتابه (حياة الأنبا أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس/ فصل10،11) تفاصيل الصراع بين أنطونيوس والشياطين، والذي انتهَى بتدخُّل مباشر للرب، فيقول:

وهـكذا إذ تطلـَّع (أنطونيـوس) إلى السـقف إلى فـوق

رأى السـقف كأنـه قد انفتـح،

وأشعـة من نـورٍ نازلةٍ عليـه،

وللحـال اختفـت الشيـاطين،

وانقشـع ألم جسـده، وعـاد البنـاء سليمـًا …

ويضيف القديس أثناسيوس، قائلاً:

وفي اليـوم التـالي خـرج أشـدَّ مَيْـلاً لخدمـة الله.



آه، يا ليتنا نُدْرِك عِظَم النعمة والمعونة التي تُحيط بنا، يا ليتنا نُدْرِك مجد النُصرة التي تترقَّب صرخات قلوبنا لتستحضِر الله في قلوبنا، حينها فقط لن تُخيفنا الخطيئة ولن تُقيِّدنا في قضبان اليأس الحديديَّة، لأن أبصارنا ستظل مُعَلَّقة بالسماء، تترجَّى المعونة وتبتهج بها. لن يستطيع جنود الشر أمام الأعين المُحدِّقة في غير المنظور سوى أن يَفِروا مهرولين نحو هاوية مصيرهم، وهم يَجُرون أذيال الخيبة والهزيمة.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

ارسل الموضوع لأصدقائك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
;