الفصل الأول
هل التقى آريوس مع إسكندر (البابا ألكسندروس) أسقف الإسكندرية
يخلط
د. يوسف زيدان بين ألكسندروس أسقف الإسكندرية الذي تنيح سنة 328م[1]،
وألكسندروس أسقف القسطنطينية الذي عاصر واقعة موت آريوس سنة 336م
حسب ما ذكر هو نفسه في الرواية. فكتب في روايته ص 55,54:
نسطور: في اليوم السابق
على لقائه المرتقب مع الإمبراطور وأسقف الإسكندرية، كان آريوس يسير ساعة
الظهر مع جماعة، فدهمه مغص مفاجيء لا مقدمات له، وانتحى عن الطريق ليلبي نداء
الطبيعة، فنزل منه دم كثير وقطع من لحم البطن وأجزاء الأمعاء.. ومات ميتة مخجلة، إذ سقط فوق ما نزل من بطنه.
كان ذلك في يوم سبتٍ من أيام العام السادس بعد الثلاثين وثلاثمائة للميلاد، قبيل
الغروب.
وفي
موضع آخر من الرواية ص 253:
هيبا: استدرج الإسكندرانيون الراهب آريوس إلى القسطنطينية من منفاه ببلاد القوط
(إسبانيا) بعدما كان قد استقر هادئاً هانئاً بأقصى العالم. استدرجوه، بعدما حرموه
وعزلوه ومثَّلوا بسمعته. لم يرضوا له أن يموت في
سلام. ولما انخدع وذهب ليلتقي بالأسقف إسكندر في بلاط قسطنطين الإمبراطور،
أملاً في الوفاق وحلّ النزاع اللاهوتي الذي أغضب الإسكندرية، لقى آريوس
مصيره المفجع ومات مسمومًا. ولم يكن أسقف الإسكندرية أيامها بمثل قوة
أسقفها اليوم، ولا كان آريوس مسكيناً مثلي!.
هكذا
يتضح أن إسكندر أسقف الإسكندرية قد توفيَّ قبل وفاة آريوس بثمانِ سنوات. فكيف يقتل
آريوس بعد وفاته هو واعتلاء أثناسيوس كرسي الإسكندرية من بعده في نفس العام وهو
عام 328م. كما أن أثناسيوس نفسه كان منفيًا عند وفاة آريوس.
â â â
هل مات آريوس مسمومًا؟
هل إسكندر (البابا ألكسندروس) أسقف الإسكندرية هو الذي دبر قتل آريوس
مسمومًا؟
ونأتي
إلى خطأ تاريخي آخر ذكره الدكتور زيدان, وهو أنه جاء على لسان نسطور في الرواية أن
آريوس قد مات مسمومًا وأن قسطنطين ارتضي باغتيال آريوس.
ص 53 نسطور: لقد ضيَّع الإمبراطور قسطنطين قديمًا، حكمة آريوس.. مثلما
تضيع اليوم على يد الجهلة الذين يزعمون أنهم أتباعه، ويتخذونه مدخلاً للهرطقة
ونَقْض الديانة. إن الآريوسيين الذين يملأون اليوم البلاد من حولنا، يجنون على آريوس
مثلما جنى عليه الإمبراطور قسطنطين قبل مائة عام، وارتضى باغتياله في وَضَح النهار.
ص 54 نسطور: اكتوى (يقصد آريوس) بنيران الإسكندرية ياهيبا..
ولما دعاه الإمبراطور من منفاه الطويل بأرض القوط، ليوفَّق، قَسْرًا، بينه وبين أسقف
الإسكندرية كي يضمن هدوء الحال ويُرضي المدينة العظمى؛ تَمَّ اغتياله
بالسُّمّ. هيبا:
مات مسمومًا!
ص 253 نسطور: لم يرضوا له أن يموت في سلام. ولما انخدع وذهب ليلتقي بالأسقف إسكندر
في بلاط قسطنطين الإمبراطور، أملاً في الوفاق وحل النزاع اللاهوتي الذي أغضب
الإسكندرية، لقى آريوس مصيره المفجع ومات مسمومًا.
سوف
نسرد هنا هذا الحدث التاريخي الهام كما أوردته أشهر المراجع الأجنبية المُعَوَّل
عليها علميًا وعالميًا فيما يخص التاريخ الكنسي, بالإضافة إلى ما ذكره المؤرخون
الأنطاكيون الثقاة أنفسهم. ثم نناقش بعد ذلك ما جاء بالرواية من زور وبهتان وتزييف
للتاريخ.
بمجرد
استبعاد القديس أثناسيوس، تم استقبال آريوس بشكل صوري وكئيب، وكان بالفعل في طريقه
من مجمع بأورشليم إلى الإسكندرية، وقد زادت آماله بسبب خلو كرسي الكرازة، ولكن كان
الشعب حزيناً جدًا بسبب وصوله وأيضًا بسبب نفي أثناسيوس[2]. ولذلك ظهرت مشاكل كبيرة،
ولهذا السبب استدعى الإمبراطور آريوس إلى القسطنطينية، وذلك إما -كما يذكر سقراط[3]- لكي يحاسبه على الثورات
التي تحدث في الإسكندرية، أو أن اليوسابيين كانوا قد خططوا أن يوقعوا تأثيراً في
قبول الهرطوقي في القسطنطينية. وإذ لم يكن ألكسندر أسقف تلك الإيبارشية يميل بأي
حال إلى رغباتهم، لذلك فقد دبَّروا أن يستدعي قسطنطين آريوس أمامه. فاختبر قسطنطين
إيمان آريوس مرة أخرى وجعله يوقّع صيغة إيمان أرثوذكسي، وأقسم آريوس أن العقيدة
التي بسببها قد تم حرمه منذ أكثر من عشر سنوات من قِبَل ألكسندر أسقف الإسكندرية
لم تكن له. ولكن الإمبراطور لدى انصراف آريوس قال: "لو أن إيمانك كان صحيحًا،
فقد أقسمتَ حسنًا، وإن كان باطلاً فليحكم الله عليك بحسب تجديفك!"[4].
وعلى ذلك،
فإن قسطنطين تحت ضغط اليوسابيين، قد أعطى أمراً لأسقف القسطنطينية بقبول آريوس في
شركة الكنيسة، وقد هدَّدَ اليوسابيون الأسقف بالطرد
والنفي؛ إذا أبدى إعتراضاً. وأعلنوا أنهم في اليوم التالي (الموافق السبت) -سواء
شاء أم أبى- سيحتفلون بالخدمة الإلهية مع آريوس. وأدرك الأسقف ألكسندر أنه لا معين
له في هذه المحنة سوى الصلاة، فذهب لكنيسة القديسة إيريني
"St.
Irene" وصلى إلى الله
قائلاً:
"دعني
أموت قبل أن يأتي آريوس إلى الكنيسة، ولكن إن شئتَ أن تشفق على كنيستك، فامنع هذه
الجريمة، أن لا تدخل الهرطقة إلى الكنيسة مع آريوس!"[5].
يذكر
قداسة البطريرك الأنطاكي المتنيح مار إغناطيوس يعقوب الثالث (مار سويريوس يعقوب
توما مطران بيروت من قبل) في كتابه "تاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية"
أنه في الوقت نفسه اقترح مار يعقوب أسقف نصيبين السرياني -الذي وُجد في
القسطنطينية في ذلك الحين- على مؤمني القسطنطينية أن يصوموا سبعة أيام من أجل
أسقفهم، ففعلوا[6].
وبعدها
بساعات قليلة، وفي مساء السبت نفسه، ذهب آريوس مع حراسة كبيرة عبر المدينة، وعندما
اقترب إلى بلاط قسطنطين، اضطر أن ينزوي في مرحاض ليلبي نداء الطبيعة، وهناك مات
فجأة بسبب انسكاب أحشائه، وذلك في سنة 336م، وشهد الكثيرون موتَه كعقاب من السماء[7]. ولم يذكر أي من المؤرخين أن أسقف
القسطنطينية له أي علاقة مادية بموته. لكن من الواضح أن صلواته وصلوات المؤمنين
كانت هي الفاعلة. وقد أجمع أغلب المؤرخين على أن موت آريوس بهذه الطريقة كان معجزة
إلهية. وهذا ليس بغريب على كنيستنا (أقصد هذا التدخل الإلهي بصورة معجزية) ويذكر
لنا التاريخ أمثلة عديدة.
ويذكر المؤرخ سوزومين (أرَّخ للفترة ما
بين324 و 439م وقد دوَّن ما كتبه ما بين 439 و450م) مقالة عن
موت آريوس كتبها القديس أثناسيوس يقول فيها:
"كان الرب هو القاضي، وأعلن ذاته ضد الظلم"؛
وأن آريوس "فَقَد استعادة الشركة وحياته معاً في آنٍ واحد"[8].
كما
يذكر سقراط الذي عاش من (380- 450م) بعد أن وصف
الطريقة البشعة التي مات بها آريوس كما ذكرناها، يعلّق قائلاً:
إن
موضع هذه المأساة (الفاجعة) مازال يُشاهد في القسطنطينية، كما ذكرت، خلف الخرائب
في صف الأشجار: ولأن الناس يشيرون بالأصبع على المكان، فهناك ذكرى دائمة محفوظة
لذلك النوع غير العادي من الموت[9].
وهكذا نرى مدى التزييف الذي استعمله د. زيدان
في هذه الرواية, ومازالت هناك بقية. ربما لا يعرف الدكتور زيدان أن الآريوسية كانت
قوية جدًا في ذلك الزمان وكان عدد كبير من الأساقفة قد اعتنقوا الآريوسية بالفعل.
وقد عقدوا عدة مجامع آريوسية. ومما يدل على ذلك, هو كيف أنهم أثَّروا على الإمبراطور
نفسه لكي يضغط على ألكسندروس أسقف القسطنطينية (إسكندر كما يسميه د. زيدان) ليقبل آريوس
في الشركة, وتدخل الله في الوقت المناسب كما يفعل دائمًا. وقد كان الإمبراطور يسعى
إلى الصلح وليس لأن يُغتال آريوس كما ذكر د. زيدان في الرواية.
[1] Margaret M. Mitchell and
Frances M. Young, eds, The Cambridge History of Christianity (Cambridge:
Cambridge University Press, 2006), p. 565;
Encyclopedia
of the Early Church, s.v. “Alexander of Alexandria” p. 20 ; Johannes Quasten, Patrology,
vol. 3 (Westminster, Maryland & Texas: Christian Classics,
1950-1960), p. 14; Encyclopedia of Early Christianity, 2nd ed., s.v. “Alexander of
Alexandria (d. 328)” p. 30.
[2] Charles
Joseph Hefele, A History of the Councils of the Church: A.D. 326 to A.D. 429, vol. 2 (Edinburgh:
T. & T. Clark, 1896), pp. 32, 33.
[3] Soc.
H.E. i. 37., quoted in Hefele, vol.
2, pp. 32, 33.
[4] Hefele,
vol. 2, p. 33.
[5] Hefele,
A History of the Councils of the Church, vol. 2, p. 33.
[6] Henry Wace and William C.
Piercy, eds, A Dictionary of
Christian Biography (Massachusetts: Hendrickson, 1994), p. 549.
راجع: سويريوس يعقوب توما
(فيما بعد هو قداسة مار إغناطيوس يعقوب الثالث بطريرك أنطاكية للسريان الأرثوذكس)،
تاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية، ج1، بيروت 1953، ص 218.
[7] Hefele, A History of the
Councils of the Church, vol. 2, p. 34.
[8] Soz.
H.E. ii. 30., vol. 2 of Nicene and Post-Nicene Fathers, Second Series (NPNF,
2nd ser.) (Massachusetts: Hendrickon, 1995), p. 280.
[9] Soc. H.E. i. 38., vol. 2 of Nicene and Post-Nicene Fathers,
Second Series (NPNF, 2nd ser.) (Massachusetts: Hendrickon,
1995), p. 35.